منتخب من قراءة لأصدق ملحمة رثاء كتبت عن الحمدي للشاعر العظيم/ عبدالله البردوني

(السلطان.. والثائر الشهيد)
هذه القصيدة ليست رثاءً تقليديًا، بل هي ملحمة أدبية مكتملة الأركان من حيث نوعها وأسلوبها أو مضمونها وتوفر عناصرها سواء الخيرة أو الشريرة، فهي لم تتخذ شكل الندب والبكاء بل جاءت بأسلوب مغاير للسائد من تعديد محاسن الفقيد ومبلغ الحزن عليه، لتجعل من تلك المناقب انعكاسًا وصوتًا مرتفعًا يتحدث عن نفسه من خلال الصراع الحاصل فيها.
لقد اختار البردوني لهذه الملحمة الطابع التراجيدي المأساوي المتشبع بالخيانة والغدر كتصوير صادق لما يفتعل داخل مشاعر الناس ويجعل القارئ كأنه أمام مسرحية حية تجري أحداثها الدراماتيكية نصب عينيه، فلا يشعر بنفسه إلا وقد انغمس في معترك هذا الحدث.

أعتقد أن هذه القصيدة هي أبلغ وأصدق وأعظم رثاء قيل في شهيد اليمن الثائر/ إبراهيم محمد الحمدي، ولا أظن الزمان سيجود بمثلها إلا إذا جاد بمبصر ومتنبي مثل البردوني وزعيم بحجم ومكانة إبراهيم الحمدي وخونة بدناءة وانحطاط القتلة.
توطئة:
عن ديوان (زمان بلا نوعية)
فعنوانه أو تسميته لم تأت من فراغ أو مجرد اختيار من اسم قصيدة وردت في الديوان، فالبردوني يعنِي التسمية سواء للقصيدة أو للديوان وهو يقصد بذلك تحديدًا الشهيد الحمدي ومن احتلوا مكانه؛ وقد أعلنها البردوني صراحة في قصيدة (زمان بلا نوعية) باستدعائه شخصية أشهر قاتل في التراث العربي (مسرور) المقرب من الرشيد:
ماذا جرى؟ عهد "الرشيد" انتهىواحتل (مسرورٌ) محل (الرشيدْ)
بل إن البردوني لم يكتف بتلك المرثية الآنية والمصعوقة بهول المفاجأة في قصيدة (صنعاء في فندق أموي)، وهي إحدى قصائد هذا الديوان أو ذلك الزمان الذي لا لون له، عندما داهمه خبر الفاجعة من نشرة الأخبار في التلفاز، ولا بالقصيدة محل هذه القراءة (السلطان.. والثائر الشهيد).
فمعظم قصائد ديوان (زمان بلا نوعية) هي فصول رواية تسرد حجم الخسارة وفداحة الجرم التي لم تقتصر على رثاء (الشهيد الثائر - إبراهيم الحمدي)، وإن كان هو محور ذلك الديوان، لكنها رثت اليمن ومستقبله، وقد جسدت بلاغةُ البردوني ورؤيته الثاقبة ونبوءته الصائبة حقيقة ذلك الزمان الذي لا نوعية له.
فتلك الجريمة لم تقتل (رشيد اليمن) فحسب، وإنما اغتالت حلم الوطن بشكل عام.
وهنا نجد البردوني يتكئ على خبرة وحكمة في تلك التسمية، فالزمان الذي أتى بعد الحمدي لا يدري ماذا يريد؛ فلا عقل له، لا إدراك ولا وعي:
أريد ماذا؟ يا زمانًا بلا
نوعية، لم يدر ماذا يريدْ
وقد شبهه بالكائن المقطوع من الماضي والمنسلخ عن الحاضر والفاقد للمستقبل؛ فهو يبدو (بلا أبٍ)، أي لا ماضٍ يشرف قادته أو إرث فكري وسياسي يستند عليه، وهو بلا ابن: لا يمتلك رؤية ولا ثقافة تؤهِّله لصنع الحاضر، أما المستقبل فإن الباحث عنه — في عيني ذاك الزمان — سينزف دما:
بلا أبٍ يبدو، بلا ابنٍ وفيعينيه يدمى باحثًا عن حفيدْ
مهما حاول الزيف أن يعطي أو يتستر بالهبات أو يتزين بالديكورات، ومهما حاول أن يخدع الناس ويغش العيون، يظل زيفًا ينفع المتسلقين لكنه لا يفيد الوطن:
تقول يعطي كل شيءٍ؟ نعملكن أعندَ الزيف شيء مفيدْ؟
* * *
مدخل للقراءة
قصيدة (السلطان.. والثائر الشهيد) هي إحدى قصائد ديوان (زمان بلا نوعية)، وهي مؤلفة من 44 بيتًا استنطقها البردوني في جزئين؛ الجزء الأول بلسان السلطان في 33 بيتًا — ويجدر التنبيه هنا إلى أن كلمة (السلطان) لا تعني صفة الحاكم الفرد وإنما تعني معنى السلطان بشموليته وبمجموع القتلة، وسيلحظ القارئ اللبيب ذلك في ذكر بعض صفات مرتكبي الجريمة أو صيغة الجمع عند التحدث.
أما الجزء الثاني فقط استنطقه البردوني بلسان الشهيد الحمدي في 11 بيتًا.
وأول ما ينبعث إلى ذهن القارئ النجيب هو عدد هذه الأبيات الـ11 التي وردت على لسان الشهيد الثائر والمقتول غدرًا في تاريخ 11/أكتوبر، مع العلم أن البردوني هو من أكثر الشعراء الذين يلعبون على الأرقام ولا يوردها اعتباطًا أو صدفة؛ وهذا ما ستوضحه القراءة الشاملة.
وقد اتخذ البردوني لهذا الاستنطاق شكل الحوار الداخلي مع الذات، وإن تبدى ثنائي التخاطب.
وقبل بدء القراءة أحب التذكير بأنها جزء من قراءة شاملة للقصيدة — خصوصًا — وللديوان عمومًا، ولكن لعدم الإثقال على القارئ، سأنتقب — في هذه المناسبة — مقتطفات منها.
* * *
القراءة
الصوت في الخندق تتكاثف موجاته ويتلملم صداه، فيكون أقوى جلجلة وأكثر ضجيجًا، وقد أزعج ذلك السلطان، فنجده في مطلع القصيدة يأمر الشهيد بأن يلزم السكون وينام كبقية الموتى:
أسْكُنْ كالموتى يا أحمقْنَمْ.. هذا قبرٌ لا خَنْدقْ
أما في البيت الثالث من القصيدة فيضاعف البردوني حالة التوتر والقلق عند السلطان ويجعله يسأل الشهيد إن كان يعرف ما معنى الموت، ثم تتضعضع مطالب السكون والنوم والموت وتتحول إلى ما يشبه المناشدة والاستفسار (ألا تغفو)، لتتضح هنا عظمة البردوني في رسم حالة الهستيريا والقلق الذي يعيشه القاتل؛ فأصبح يترجى من الشهيد (اغفاءة) علَّ أعصابه تهدأ وقلقه يخف، معترِفًا بأنه الرعب بذاته، ومع ذلك فرؤية الشهيد حيًّا تقلق هذا الرعب، بينما الثائر مطمئن النفس:
تدري ما الموتُ؟ ألا تغفو؟أقلقتَ الرعبَ وما تقلَقْ
ظن القتلة الذين أختزلهم البردوني بصفة (السلطان) أن كل شيء سينتهي بمجرد قتل الشهيد، لكنهم لم يتوقّعوا أن يروه حيًّا؛ فلا سمة للدفن ولا أثر إرهاق على جثة نهضت من تحت التراب، وإنما تبدَّى لهم الشهيد في صورة من الزهو والأناقة والرشاقة، والصبي الذي يفوق في حيويته الفرس الأبلق:
مَنْ ذا أحياكَ؟ أعيدوهُ؟أعييتَ الشرطةَ والفيلقْهل كنتَ دفينًا؟ لا سمةٌللقبرِ، ولا تبدو مُرهقدمُكَ المهدور — على رغمي —أصبحت به، أزهى أأنقأملى بالعافيةِ الجذْلَىومن الرمح (الصعدي) أرشقمن أين طلعت أحر صِبًّاوأكرم من الفرس الأبلق؟قالوا: أبحرت على نعشٍويقالُ: رجعت على زورق!
يتصاعد المشهد الدرامي في أبيات القصيدة، أو هكذا صعده شاعرنا الكبير/ عبدالله البردوني، لينقلنا من حالة الرؤيا إلى وضع المعاناة والاضطراب والتوجس والهلع والخوف التي بلغت ذروتها في تشكيك السلطان بيقينه من قتل الشهيد وببصره الذي شهد القتل والدفن؛ فلم يعد يعرف من أصدق أبصره أم هيئة الحمدي المنتصبة أمامه بشحمها ولحمها:
ماذا يبدو، من يخدعني؟بصري أم أنت؟ من الأصدق؟شيء كالحية يلبسنيسيف بجفوني يتعلقمن أين تباغتني؟ أنأىتدنو، أستخفي، تتسلقتشوِّيني منك رؤى حمريتهددني سيف أزرقشبح حرباوي، يرنويغضي، يتقزم، يتعملقتحتل قرارة جمجمتيفأذوب، إلى نعلي أغرق.
ينتقل بنا سيناريو هذه المأساة إلى مشهد خارجي لا يقل ضراوة على السلطان من تلك الكوابيس التي تداهمه في صحوه ومنامه داخل أسوار تحصيناته، فيجد في خارجها ما لم يخطر على باله أو يمر في حساباته، ويتفاجأ أن الحمدي يباغته متدفّقًا من كل مكان ويراه في كل عيون الشعب الذي يعشقه بكل الجوانح، ويلقاه بين الصخور ومع الريح، وفي الأودية وفوق التلال:
من أي حجيم تتبدى؟عن أي عيون تتفتق؟الوادي باسمك يتحدىوالتل بصوتك يتشدقالصخر ينثر خطاك لظىالريح العَجْلَى تتبندقبأكل عيون الشعب ترى؟بأكل جوانحه تُعشق؟تحمر هناك، تموج هنامن كل مكان تتدفق
* * *
قبل أن ننتقل إلى ختام هذا المقتطف الذي تتجلى فيه قدرة البردوني على التنبؤ العجيب، لا بد من المرور على الاعتراف بذلك الفشل وكشف أدواته، حيث يؤكد البردوني أن إخفاء جريمة قتل بذلك الحجم في مدينة كصنعاء، ومحاولة اختلاق قصة مفبركة تستبعد القتلة الحقيقيين، هي ضرب من المحال؛ فروائح القتل أعبق انتشارًا:
القتلُ بصنعاء مقتولٌوروائحُه فيها أعبق
يعترف السلطان للشهيد الحمدي بأنه أدرك أخيرًا فداحة الجريمة التي قاموا بها، ولكن في الوقت الضائع فقد كُشف كل شيء وسقط التنسيق والمنسق:
الآن عرفت.. فما الجدوى؟سقط التنسيق، ومن نسَّق
وهنا يخبر السلطان شبح الشهيد في هذا المقطع بأن القتلى الحقيقيين هم من ارتكبوا جريمة القتل، وأنه — أي الشهيد — قد أرداهم قتلى؛ ونلاحظ هنا أن حكيم الزمان ومبصر العصر البردوني قد حدد أهم عناصر وأدوات تلك الجريمة وهم (قائد اللواء) و(الملحق العسكري):
أضحى القُتَّالُ هم القتلىأرديت (القائد والملحق).
* * *
التنبؤ
يمتاز البردوني — رحمات ربي عليه — بسجية تنبؤ فريدة من نوعها، فسبحان من ألهمه تلك الميزة التي لا تخطئ، والتي تفوق في تنبؤها كل التوقعات والتحاليل والاستشرافات، حتى كاد — من كثر تحققها — يظن البعض أنه وحي إلهي خصه الله لهذا الكفيف الذي تجاوز بصر قلبه المداءات والأزمان.

ومن تلك النبوءات ما أخبر به في هذه القصيدة من نهاية للقتلة، تجعل العاقل يتسمر من دقتها وتزيغ الأبصار من تشخيصها؛ وإليكم تلك النبوءة كما أوردها في الأبيات التالية؛ فقد توقَّع أن يصبح "عهد الحمدي الزاهر" تسليطًا مَسلطًا على حكم ذلك السلطان، وفعلاً هذا ما حصل حتى اليوم رغم الاجتهاد في إخفاء منجزاته:
قالوا: أخفي... أصبحت علىسلطاني، تسليطًا مطلقًا
وعن نهاية القُتّال تنبأ البردوني بذلك وكأنه يرسم سيناريو ذلك الختام، ولنبدأ بحالة الإحباط التي وصل إليها القتلة حيث يقولون:
أما دفنوك وأعلنافلماذا تعلو تتألق؟
وفي البيتين التاليين وجب التمعّن كما لم يحدث من قبل.. فالجميع يعرف كيف انتهت حياة الأول، وتمزقت جثته أشلاء وتقطعت شرايينه إربًا إربًا:
أسبقت إليك؟ فكنت إلىتقطيع شراييني أسبق?
وعن الثاني قال في ذلك الزمان ما وصل وتحقق بعد أكثر من أربعين سنة:
هل من دمك اختضبت يدهأم أن أناملُه تحترق؟
فمن أوحى لك بذلك يا بردوني؟ من أوحى؟
نهاية لهذا الطواف المختصر لا بد من جعل ختامه مسك، وأجمل المسك منتخب مما جاء على لسان الثائر الشهيد/ إبراهيم محمد الحمدي، الذي يقول للسلطان بأن دفن جثته لن يكون النهاية، فالبذور تورق مدفونة:
كالبذْرِ دفنتَ هنا جسديوالآن البذْرُ هنا أورق
وفي نهاية هذه القراءة يخبر السلطان وأبواقه الذين أصابت نفوسهم أدران الجحود ولا زالت تنعق بسموم النكران عن إنجازاته ببيت واحد:
ماذا حققت؟ ألا تدري؟وطني يدري، ماذا حقق.
في الختام أعلم جيدًا أن محاولة الاقتراب من قصائد البردوني هي بمثابة الاقتراب من تيار كهربائي عالي الضغط؛ فإن لم تمتلك أدوات النجاة صعقك واحرقك، ولكن حسبي المحاولة ومن الله التوفيق.
شآبيب الرحمة والغفران على إبراهيمنا الثائر الشهيد وعلى متنبينا البردوني الحكيم.