صنعاء 19C امطار خفيفة

السلام المفقود

في الأيام الأخيرة تابعت الشعوب في معظم أنحاء العالم، تطورات مفاوضات غزة ومحاولات إنهاء الحرب، حيث خرجت تصريحات متكررة من قادة دول كبرى، من بينهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، متحدثين عن الساعات الأخيرة والفرص التاريخية للسلام، غير أن هذه العبارات التي تبدو مألوفة، تعيدنا إلى سجل طويل من الوعود التي لم تثمر سوى مزيد من الدماء والدمار، فالعالم منذ عقود يسمع النغمة ذاتها، وإن تغيرت الوجوه والمقرات والسياقات، لكن الجوهر لم يتبدل؛ لا سلام حقيقيًا ولا حلول عادلة.

القضية الفلسطينية اليوم ليست حدثًا طارئًا أو أزمة سياسية قابلة للتفاوض فحسب، بل هي مأساة ممتدة عبر أجيال، تحمل في طياتها جوهر الصراع الإنساني بين الحق والقوة، بين الذاكرة والمحو، بين العدالة والهيمنة. وقد فشلت كل المبادرات السابقة، لأن الأطراف التي تتصدر مشهد السلام غالبًا ما تتعامل معه كصفقة سياسية، لا كقضية إنسانية. البعض يرفع راية المفاوضات طلبًا لمكسب سياسي، وآخرون يتاجرون بآلام الفلسطينيين حفاظًا على موقع أو نفوذ، بينما يبقى الشعب وحده يدفع الثمن الأكبر.
التحولات الأخيرة في الوعي العالمي مثيرة للانتباه، فمع تصاعد العدوان بدأت الشعوب الحرة لا الحكومات تدرك عمق المأساة بعيدًا عن الروايات الرسمية والإعلام الموجه. في عواصم أوروبا وأمريكا وآسيا خرجت مظاهرات تطالب بوقف الحرب، في مشهد يؤكد أن الوعي الإنساني لايزال قادرًا على المقاومة رغم محاولات تزييفه. هذه التحركات الشعبية، وإن كانت رمزية، إلا أنها كشفت هشاشة الخطاب الغربي الذي يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، بينما يصمت أمام مشاهد القصف والقتل اليومي في غزة.
الصراع في فلسطين ليس مجرد احتلال جغرافي، بل استعمار متعدد الوجوه، فهناك استعمار ظاهر يُرى في الجدار والحصار والمستوطنات، واستعمار خفي تمارسه القوى الإمبريالية عبر أدواتها الاقتصادية والسياسية والإعلامية، إذ تصنع أنظمة وتعاد صياغة وعي الشعوب بما يخدم مصالح الكبار. هذا النمط من السيطرة الناعمة بات أخطر من الاحتلال المباشر، لأنه يقتل إرادة الشعوب باسم الاستقرار، ويصادر الحرية باسم التنمية.
وما يزيد من تعقيد المشهد هو الدور الذي يلعبه الإعلام العالمي الذي تحول في أغلبه إلى أداة تمويل وتوجيه تخدم مصالح محددة، فالحقيقة تشترى مسبقًا، والعناوين تكتب وفق أجندات مدفوعة الثمن تطمس جرائم وتبرر اعتداءات، وتصاغ اللغة لتجمل القبح وتخفي المأساة. وهكذا يعاد تشكيل وعي الجماهير في العالم ليبدو القاتل ضحية والمحتل مدافعًا عن نفسه.

الكلمات الدلالية