صنعاء 19C امطار خفيفة

أكتوبر... الثورة التي لم تكتمل بعد

لم تكن ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963 في جنوب اليمن حدثًا مفاجئًا أو وليد لحظة غضب عابرة، بل كانت حصيلة تراكم طويل من النضال والمقاومة ضد الاستعمار البريطاني الذي جثم على صدور اليمنيين في الجنوب لأكثر من 129 عامًا. قبل أن تشتعل الشرارة في جبال ردفان، كانت الأرض تغلي تحت أقدام المحتل، فقد شهدت مناطق كثيرة مثل دثينة والعوالق وحضرموت انتفاضات وتمردات متكررة، عبّرت عن رفض الناس للهيمنة الأجنبية، لكن تلك الحركات، رغم شجاعتها، لم تجد من يوثّقها أو ينظم صفوفها سياسيًا، فبقيت حبيسة الذاكرة الشفهية وأحاديث الكبار.

لقد استخدم الاستعمار كل ما في جعبته من وسائل القمع، وقصف بالطائرات قرى بأكملها في العوالق ودثينة، غير أن إرادة التحرر كانت أقوى من كل ما امتلكه من سلاح. ومهما جرت من محاولات لطمس تلك المراحل، فإنها تبقى صفحاتٍ مضيئةً في سجل النضال الوطني الجنوبي، صفحاتٍ ما تزال تنتظر مؤرخًا منصفًا يزيح عنها غبار التهميش، ويدوّنها كما كانت: مقاومةً شعبيةً عنيدةً سطّرها أناس بسطاء لم يحملوا سوى إيمانهم بحقهم في الحرية.
وحين جاءت لحظة أكتوبر، كانت الشرارة امتدادًا لتلك التضحيات المتناثرة. انطلقت من ردفان بقيادة راجح بن غالب لبوزة، الذي عاد من شمال الوطن بعد أن شارك في دعم ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، حاملًا معه شعلة الحرية ليشعل بها فتيل المقاومة في الجنوب. ومن هناك بدأت مرحلة جديدة من الكفاح المنظّم، تقودها فصائل الجبهة القومية، ولاحقًا جبهة التحرير وتنظيمها الشعبي، حتى تحقق الحلم الكبير في الثلاثين من نوفمبر عام 1967، حين رحل آخر جندي بريطاني عن أرض عدن، وأُعلن ميلاد جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، كأول دولة عربية في الجزيرة والخليج تتحرر من الاستعمار الأوروبي بقوة السلاح.
بهذا المعنى، غدت ثورة أكتوبر استمرارًا لتقليد المقاومة العربية المسلحة، وأثبتت أن الإرادة الشعبية قادرة على كسر أقوى الإمبراطوريات حين تشتعل في وجدان الناس فكرة الحرية.
كانت فرحة الاستقلال عظيمة، لا لأنها أنهت الوجود البريطاني فحسب، بل لأنها ولّدت الأمل في بناء وطن جديد يقوم على العدالة والمساواة والكرامة. غير أن طريق ما بعد الاستقلال لم يكن مفروشًا بالورود، إذ دخلت البلاد مرحلة من الصراعات السياسية والفكرية، وانقسامات أيديولوجية أنهكت التجربة الفتية، وانتهت بمآسٍ داخلية أضعفت الدولة ومزّقت النسيج الوطني، قبل أن تتوّج تلك المسيرة المعقدة بوحدة 22 مايو 1990.
واليوم، ونحن نحيي الذكرى الثانية والستين لثورة أكتوبر المجيدة، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ يمنيٍّ ممزق، تآكلت فيه مؤسسات الدولة، وضاعت فيه أحلام أجيال بأكملها. عشر سنواتٍ من الحرب الأهلية كفيلةٌ بأن تلتهم كل منجزات الثورتين، سبتمبر وأكتوبر، وأن تعيدنا عقودًا إلى الوراء. فمن في الشمال يحاول إعادة نظام الكهنوت الذي أسقطته ثورة سبتمبر، ومن في الجنوب يغازل مشاريع الاستعمار القديم، ويتحدث عن "اتحاد الجنوب العربي" الذي أسقطته أكتوبر بدماء الأحرار.
كأننا أمام محاولة بائسة لإحياء الماضي في ثوبٍ جديد، متناسين أن التاريخ لا يعود إلا حين يقرر الانتقام ممن تجاهلوه. ولعل ما قاله كارل ماركس يصدق علينا اليوم: "إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة كمأساة، ومرة كملهاة". وما نخشاه أن تكون هذه الإعادة ملهاةً على حساب آلام الناس ودماء الشهداء.
لكن رغم كل هذا السواد، فإن جذوة أكتوبر لا تزال مشتعلة في القلوب، لأنها ليست مجرد ذكرى سنوية تُلقى فيها الخطب وتُرفع فيها الشعارات، بل هي روحٌ متجددة تذكّرنا بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع. الثورة الحقيقية لم تكن في طرد الاستعمار فقط، بل في بناء الإنسان الحر، القادر على رفض التبعية والاستبداد، أيًّا كان شكله ولونه.
إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط استذكار الماضي، بل استعادته بمعناه الوطني الحقيقي، بوصفه درسًا في الوحدة والنهوض، لا منصةً لتغذية الأحقاد والانقسامات. فثوار أكتوبر لم يسألوا عن الانتماءات الصغيرة، بل عن الوطن الكبير الذي يجمع الجميع. والذين قدّموا أرواحهم في جبال ردفان وعدن والمكلا لم يكونوا يبحثون عن سلطة أو غنيمة، بل عن كرامة وطنية ظلّت عصيّة على الكسر.
قد تتبدل الظروف وتتغير الوجوه، لكن تظل روح أكتوبر هي المعيار الذي نقيس به صدق الانتماء للوطن. كل من يحنّ إلى الاستعمار أو يسعى لإعادة أنظمة الاستبداد، إنما يوجّه طعنةً لثورة كتبها اليمنيون بدمائهم. ولن يسمح أحفاد أولئك الثوار بأن تُختطف تضحيات أجدادهم، فالتاريخ لا يرحم من يعبث به، ولا يغفر لمن يتنكر لدماء الشهداء.
لقد آن الأوان أن نعيد قراءة ثورة أكتوبر بعيون الحاضر لا الماضي، أن نستخلص منها الدروس التي تعيننا على استعادة الدولة لا على تمزيقها. فالثورات لا تموت إلا حين ينسى الناس مبادئها، وما دامت فينا ذاكرةٌ حيّة، فإن أكتوبر ستبقى رمزًا للحرية والمقاومة، وستظل رايتها مرفوعةً ما بقي في هذا الوطن قلبٌ ينبض بالكرامة والإيمان بالحرية.

الكلمات الدلالية