الهاشمية السياسية ورحلة الدوران بين القبو والسطح

في اليمن كلما ظننت أنّ التاريخ خطّ مستقيم اكتشفت أنه مجرد حلقة دائرية أشبه برقصة "المركّح" التي تبدأ من حيث انتهت وتنتهي من حيث بدأت، فلا خروج من الحلقة ولا حتى استراحة بين الدوران والدوران.. وما بين يحيى الرسي الداخل من بوابة صعدة أواخر القرن التاسع الميلادي، وحسين الحوثي الخارج من مرّان مطلع القرن الحادي والعشرين، يمكن للقارئ أن يمدّ خطًا واحدًا متعرجًا اسمه الهاشمية السياسية، خطٌّ يزعم القداسة ويستعير دموع النسب ليبرر السيف، ثم يسقط بعد كل جولة ليعود من جديد بوجه آخر وشعار آخر.
لكن اللحظة المفصلية لم تكن في دخول الرسي ولا حتى في خروج الحوثي، بل حين قرر اليمنيون -ولو إلى حين- أن يطردوا "الإمامة" من السطح إلى القبو. غير أن القبو كما يعرف أي ساكن بيت قديم في صنعاء، لا يموت فيه ساكنوه، بل يتحول إلى مستودع للأسرار، ومخزن للحبوب، ومرتعٍ للفئران التي لا تعلن موتها، بل تعود لتقرض في الظلام.
الهاشمية السياسية اختبأت في القبو لفترة، ثم ظهرت من جديد عبر تنظيم سري سُمّي بلغة وقورة "المجلس الأعلى لحكماء آل البيت"، وكأنها جمعية خيرية لتزويج اليتامى، بينما هدفها كان -ومازال- إعادة ترتيب أوراق الوراثة على مهل، والتسلل إلى الدولة من ثقوبها حتى تستيقظ يومًا، فإذا هي رهينة بيد من قيل إنهم "حكماء"، بينما هم أدهى وأطول نفسًا من حربٍ قبلية لا تنتهي.
عندما أُزيح البدر بدا المشهد كما لو أن اليمن قرر أن يغسل ألف سنة من الغبار بسطل ماء بارد. لكن البدر -وهو سليل بيت لا يموت بالرصاص بل يتجدد بالادعاء- حمل بندقيته وطار إلى شمال الشمال، وأعلن أن "الشرعية الإلهية" لم تسقط، بل انسحبت للتخندق. دخلت الجمهورية حربًا مع فلول الإمامة، حربًا امتدت ثماني سنوات، وانتهت بتسوية عام 1970، حيث قررت الجمهورية أن تُقاسم الإمامة البيت مناصفة: غرف للدولة، وغرف للهاشميين، ولكل غرفة مفتاحها.
حين هدأت المدافع جلس شيوخ الهاشمية السياسية ليصنعوا ما يشبه "خطة الخمسين سنة".. تأسس "المجلس الأعلى لحكماء آل البيت"، اثنا عشر رجلًا يوزعون الأدوار: واحدٌ يتسلل إلى القضاء، آخر يتسلل إلى الجيش، وثالث يلبس عباءة الوزير، ورابع يكتب القصائد في مدح آل البيت لينثرها كالبخور في وجوه البسطاء.
ترأس المجلس أحمد محمد الشامي، وزير خارجية الإمامة في المنفى، الذي وجد نفسه فجأة عضوًا في "المجلس الجمهوري". هكذا دون أن يطلق رصاصة واحدة، صار "الحكيم" جزءًا من رأس الدولة، وكأن سبتمبر مجرد خطأ مطبعي في كتاب التاريخ.
والحقيقة أن الهاشمية السياسية لم تعد إلى السطح بمدافع ولا بخيول، بل بخطة أبرد وأطول: التغلغل في مؤسسات الدولة كما تتسرب المياه من جدار مشروخ، حتى إذا انهار السقف بعد عقود قيل إن الانهيار قضاء وقدر، بينما هو حيلة مدبرة منذ اليوم الأول.
وجدت الهاشمية السياسية ضالتها في علي عبدالله صالح، رجل شغوف بالسلطة كما يُغرم الطفل بلعبة بلاستيكية، يحميها ويعضّ عليها حتى لو كسرت أسنانه. صالح لم يكن جمهوريًا بالمبدأ ولا إماميًا بالوراثة، بل كان -ببساطة- لاعب توازنات يعرف كيف يستخدم خصومه بعضهم ضد بعض.
الهاشمية السياسية قالت له: "نحن نخدمك بشرط أن تخدمنا"، فسمح لهم بالتغلغل في الجيش، الحرس الجمهوري، الاستخبارات، القضاء، والحزب الحاكم. وبدلًا من أن تتحول الجمهورية إلى دولة مواطنة، صارت مسرحًا لتوريث جديد: صالح يورّث ابنه، والهاشمية السياسية تورث الفكرة القديمة بملامح حديثة.
في 1990 مع الوحدة والتعددية الحزبية، قرر بعض المرجعيات الهادوية أن يضعوا عمامتهم على رأس حزب اسمه "حزب الحق". كان الحزب مجرد لافتة، يلمّ شتات المرجعيات، ويعيد إنتاج الخطاب المذهبي في ثوب سياسي. في صفوفه جلس بدر الدين الحوثي، وأحمد الشامي، ومجد الدين المؤيدي.
لكن اللعبة لم تقف عند الحزب. ففي 1992 وُلد "منتدى الشباب المؤمن" ببراءةٍ ثقافية، ثم تحوّل تدريجيًا إلى منصة عسكرية. وبحلول 1999 حين سيطر حسين الحوثي على المنتدى، صار السؤال: هل هذا نادٍ ثقافي للشباب أم مصنعٌ لإحياء "نظرية البطنين"؟ الجواب أتى سريعًا مع اندلاع أول حرب في صعدة عام 2004: لم يعد الأمر "ثقافة"، بل رصاص يعلن أن "الإمامة" لم تمت، بل أخذت إجازة نصف قرن.
اليوم يقف اليمنيون أمام سؤال ملتبس: هل ما نشهده هو آخر تجلٍّ للهاشمية السياسية، أم مجرد دورة جديدة في الحلقة المفرغة؟ الجواب ليس سهلًا، لكن التاريخ يقول إن الإمامة سقطت كدولة في 1962، ولم تسقط كفكرة. ظلت تتناسل مثل نبات سامّ: يُقطع غصنه فينبت آخر.
الهاشمية السياسية ليست مجرد أشخاص بعمائم، ولا حتى تنظيمًا سريًا من اثني عشر "حكيمًا". إنها فكرة قديمة تتجدد كلما سمحنا لها بالاختباء في القبو. سبتمبر كان محاولة لطردها من السطح، لكن النصف الثاني من المعركة يبدأ حين يُقفل القبو ويُقال للفئران: "لقد انتهى زمنكم".