سقوط

كنا شلّة بسيطة في صنعاء.
شباب في مقتبل العمر، يجمعنا الحب.
لا شيء مميز فينا،
لكننا كنا نعرف كيف نعيش يومنا بسعادة رغم بساطتنا.
كنا نجمع ما معنا،
نشتري القات للجميع،
وفي كثير من الأحيان،
نخزن في لوكندة صغيرة قرب سوق عنس،
نقيل فيها كأنها بيتنا،
نتبادل القصص،
نضحك كأننا نملك العالم،
ننسج أحلامنا،
رغم أن بعضنا لا يملك أجرة الباص.
ثم ظهر في حياتنا ذلك الشاب.
طويل، وسيم، يمتلك سيارة،
من عائلة تعمل مع علية القوم.
كان مختلفًا عنا،
لكننا لم نشعر بالمسافة.
كان كريمًا، لبقًا،
مهندمًا بطريقة تلفت النظر،
كل من عرفه أحبه،
حتى من لم يعرفه جيدًا،
كأن حضوره وحده يكفي.
في أحد أيام الجمعة،
دخل علينا بابتسامته المعتادة،
يرتدي قميصًا أبيض مكويًا بعناية،
تفوح منه رائحة عطر لا نعرف اسمه،
قال: "اليوم غداؤكم عليّ".
لم يسأل، لم ينتظر موافقة،
كأن الأمر محسوم منذ البارحة.
ركبنا معه في سيارته،
كانت نظيفة،
تفوح منها رائحة مميزة،
يقودها بثقة،
كأن الطريق يعرفه.
أخذنا إلى مطعم لم ندخله من قبل،
جلسنا على طاولة كبيرة،
طلب لنا أطباقًا بعضها لم نعرف أسماءها،
لكننا أكلناها بصمت،
كأننا نخشى أن نُفسد اللحظة بالكلام.
في طريق العودة،
اشترى لنا فواكه، وقات ليس كقاتنا الذي تعودناه.
كنا نضحك أكثر من المعتاد ذلك اليوم،
لكن في داخلي كان هناك انقباض لا أعرف كنهه،
شيء يشبه القلق.
كان محور حديثنا، وكلٌّ منا يغبطه بصمت.
لم يكن أحد منا يعرف
أن تلك اللحظة ستتحول بعد أسابيع
إلى ذكرى ثقيلة،
نحملها بصمت،
نتجنب الحديث عنها.
ثم مرضت،
وسافرت إلى تعز،
مكثت هناك حتى تعافيت،
وعندما عدت،
لم يكن المكان كما تركته.
الوجوه متوترة،
الضحك خافت،
الكلمات مترددة.
سألتهم،
قالوا لي: "طلع سارق".
قلت: "من؟"
قالوا: "فلان".
قلت: "لعلكم تمزحون".
لكنهم حلفوا لي أنها الحقيقة.
انصدمت.
جلست تلك الليلة أفكر،
ثم الليلة التي بعدها،
ثم ليالي كثيرة،
كيف؟ ولماذا؟
لم أجد إجابة،
لا أحد كان يملكها.
كنت أشعر بالذنب،
ليس لأننا فعلنا شيئًا،
بل لأننا كنا قريبين منه.
كأننا، دون أن ندري،
كنا جزءًا من سقوطه.
في ليالٍ كثيرة،
تخيلت لحظة القبض عليه.
كيف كان؟
هل ارتجفت يداه؟
هل حاول أن يشرح؟
أم أنه سكت،
كما يفعل من يعرف أن الكلام لن يغيّر شيئًا؟
تخيلت والده،
حين وصله الخبر،
هل جلس بصمت؟
هل شعر بشيء ينكسر فيه؟
تخيلت أمه،
هل بكت؟
أم أنها لم تصدق، كباقي الأمهات؟
تخيلت أول ليلة له في السجن،
كيف نام؟
هل استطاع أن يغمض عينيه؟
هل سمع همسات السجناء؟
هل شعر بنظرات السجان تخترقه؟
هل بكى؟ كما بكيتُ.
أم اختار الصمت.
بعد فترة،
قررنا زيارته في السجن.
ذهبنا،
كنا صامتين أغلب الطريق،
كأننا نحمل شيئًا لا نعرف كيف نضعه.
خرج لنا،
مطأطئ الرأس،
نحيل الجسم،
بالكاد عرفناه.
كأن الأيام مرت عليه بسرعة،
وتركت آثارها عليه.
لم يرفع عينيه،
لم يبتسم،
كأن شيئًا فيه انطفأ.
لم أقترب كثيرًا،
كادت دموعي أن تفضحني،
لكنني تماسكت.
كنت أسترق إليه النظرات بخجل،
أخشى أن يفكر:
ويقول في نفسه،
"لماذا جاؤوا؟
هل ليشهدوا سقوطي؟".
لم نمكث طويلًا،
أعطيناه هدية،
وغادرنا.
في طريق العودة،
لم يتكلم منا أحد،
لكن في داخلي،
شعرت أن شيئًا ما انكسر.
وبعد أكثر من عشرين سنة،
كنت أتناول غدائي في أحد مطاعم شارع تعز،
حين لمحته يقترب من بعيد.
صرخت: "يا فلان! يا فلان!".
لكنه هرب مني،
كانت ملابسه رثّة،
يمشي كمن فقد شيئًا،
عيناه شاردتان،
كأنه لا يعرفني... أو لا يريد أن يعرفني.
سألني الجرسون:
"من أين تعرفه؟".
فقلت: "معرفة قديمة".
فقال لي: "هذا يشحت في الشارع،
لكن اسمه ليس كما ناديته،
نحن نعرفه باسم آخر".
هززت رأسي في أسى،
وغرقت في صمتٍ ثقيل،
وتذكرت تلك الأيام...