جدلية نوبل وأدونيس
منذ عقودٍ طويلة، لاتزال الجدلية حول الشاعر والمفكر السوري علي أحمد سعيد إسبر، المعروف باسم أدونيس، تتجدد كل عام مع اقتراب موعد الإعلان عن جائزة نوبل للآداب. فالرجل لم يكن شاعرًا فحسب، بل تحوّل إلى مشروع فكري وثقافي تجاوز حدود القصيدة ليصبح ظاهرة عربية وإنسانية نادرة. أدونيس لم يكتب الشعر ليُرضي أحدًا، بل ليقلب المفاهيم ويزعزع اليقين، وليعيد ترتيب العلاقة بين اللغة والفكر، وبين النص والحرية.
منذ بداياته، حمل أدونيس همّ تجديد الشعر العربي، فكان أحد أبرز روّاد الحداثة الذين نقلوا القصيدة من عمودها القديم إلى فضاءاتٍ جديدة تتقاطع فيها الأسطورة مع الفلسفة، والمجاز مع الفكرة. لم يكن التجديد عنده زخرفًا لغويًا، بل مشروعًا متكاملًا لتحرير العقل من قيود الماضي. ففي كتابه الشهير «الثابت والمتحول»، أعاد قراءة التراث العربي من منظورٍ نقدي جريء، باحثًا عن لحظات التحول التي همّشها التاريخ الرسمي لصالح الثبات والانغلاق. أما في كتابه مقدمة الشعر العربي فقد قدّم قراءة مقارنة عميقة بين التجربتين، كاشفًا الفارق بين شعرٍ يُنتج الأسئلة وشعرٍ يكرّر الأجوبة، بين شاعرٍ يتكلم باسم الجماعة وآخر ينطق بوجع الفرد الحر.

في عام 2003، كنت أعمل في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، شابًا في الثالثة والعشرين من عمري، أتشبّع بالشعر وأبحث عن معنى الكتابة في زمنٍ يميل إلى الصمت. جمعتني الصدفة بمهرجانٍ شعري شارك فيه أدونيس ومحمود درويش، وهناك أدركت أنني أمام رجلٍ لا يشبه غيره. كنت قد قرأت معظم ما كتب أدونيس، وخصوصًا الثابت والمتحول ومقدمة الشعر الغربي، فتكوّن في داخلي إعجابٌ ممزوج بالدهشة من جرأته الفكرية وفرادته اللغوية. جمعت شجاعتي وسألته يومًا إن كانت جائزة نوبل تعنيه أو تمثل له شيئًا. ابتسم ابتسامةً عميقة وقال: "الجائزة نعيمٌ وجحيم في آن".
بهذه العبارة الموجزة فهمت فلسفته تجاه المجد والاعتراف. لم تكن نوبل بالنسبة له حلمًا شخصيًا ولا مكسبًا أدبيًا، بل كان امتحانًا للحرية. كان يرى أن الجائزة حين تأتي من مؤسسة غربية لا بد أن تحمل في طيّاتها معيارًا غير أدبي، وأن القيمة الحقيقية للشاعر تُقاس بقدرته على إحداث الأسئلة لا بنيل الأوسمة. أدونيس لا يلهث وراء الجوائز، بل وراء المعنى. إنه شاعر يبحث في المجهول، في المناطق التي يخشاها الآخرون، ويمضي نحوها بجرأة الباحث عن أصل الكلمة ومصير الإنسان.
في مشروعه الطويل الممتد لأكثر من نصف قرن، لم يكن أدونيس مجرّد صوتٍ شعري، بل ثورة فكرية ضد الثبات بكل أشكاله. تمرّد على اللغة، على الموروث، وعلى السلطة التي تحاول احتكار الحقيقة. رأى أن الشعر ليس فنًّا للزينة، بل وسيلة لفهم الوجود وإعادة خلقه. وفي كل ما كتب، من "كتاب التحولات؛ والهجرة في أقاليم النهار والليل"
إلى "الكتاب"، كان الشعر لديه تجربة معرفية تتقاطع فيها الروح بالتاريخ، والفكر بالأسطورة.
وربما لهذا السبب تحديدًا لم تمنحه نوبل مكانها، وربما لهذا السبب ذاته لم يكن يحتاجها. فالغرب الذي يمنح الجائزة لا يكرّم غالبًا من يربك منظومته الفكرية أو يواجه مركزه الثقافي بالشك. أدونيس، بصوته المتمرّد، كان دائمًا خارج الأطر، لا يهادن ولا يُهادَن، ولذلك بقي في الذاكرة رغم غياب الأوسمة عن صدره.
لقد تجاوز أدونيس فكرة الاعتراف الرسمي، وصار في ذاته اعترافًا من نوع آخر: اعتراف الفكر بالشجاعة، واعتراف اللغة بقدرتها على التجدد. فالشاعر الذي كتب الثابت والمتحول لم يكن ناقدًا للتراث فقط، بل كان ناقدًا للعقل العربي بأكمله، سائلًا إياه عن سبب خوفه من التغيير وتمسّكه بما يُميت الحياة. لذلك، حين تقرأ له، تشعر أنك أمام مشروع تحرر داخلي قبل أن يكون مشروعًا أدبيًا.
إن المجد، في نظر أدونيس، لا يُمنح بل يُصنع. إنه ثمرة الصراع بين الثبات والتحول، بين الخوف والجرأة، بين من يكتب ليسترضي ومن يكتب ليوقظ. لذلك لم ينتظر اعتراف العالم به، لأنه جعل العالم نفسه يعترف بعجزه أمام فكرٍ لا يُحدّ وكلمةٍ لا تموت. أدونيس شاعرٌ لا يطلب الخلود، بل يخلقه.
هكذا تبقى جدلية نوبل وأدونيس أكثر من مجرد نقاش حول جائزة؛ إنها مرآةٌ لعلاقة الثقافة العربية بالعالم، ولسؤالٍ أكبر عن معنى الاعتراف ومصدره: هل يأتي من الخارج، أم من القدرة على أن تكتب ما يخلد في الداخل؟
أدونيس لا يحمل نوبل في سيرته، لكنه يحمل ما هو أعمق وأبقى منها: مشروعًا شعريًا وفكريًا غيّر وجه القصيدة العربية، وأعاد تعريف الحرية بوصفها فعلًا جماليًا ومعرفيًا.