صنعاء 19C امطار خفيفة

غُصين "أشن بوتيل": حينما تكون الحكاية وطنًا

غُصين "أشن بوتيل": حينما تكون الحكاية وطنًا
بوابة براندنبورج- برلين

"اقطف لي يا أبي أول غُصين يلمس قبعتك، وأنت في طريقك إلينا"

أشن بوتيل (سندريللا ألمانيا)

**
وأول غُصين لامس ما تحت قبعتي "عقلي" الصغير، وأنا في طريقي للتعرف على برلين، 2009، ذلكم الغصين هي، برلين، للغصن الأكبر ألمانيا، حسب حديث بطلة الحكاية الشعبية الجرمانية أشن بوتيل التي رواها الأخوان جريم.
تخيلت هذا الغصين العنقاء، سفر الخلود الذي نفض غبار الموت، لتخلق وتتجدد الحياة من ركام وغبار الموت.. هكذا هي برلين التي سمعت، وقرأت عنها، تتعرض لكارثة حرب عالمية، لم تترك مفصلًا ينبض فيها، كل شيء غدا ركامًا، غير أن روح الإنسان، روح الغصن يخضر من الجذر، من مسامات الحياة، من أوتار الكمنجات وموسيقى باخ، بيتهوفن، وشومان، وأ/ ب الفلسفة، وحروف جوته، هرمان هيسه، وجونتر غراس، وغصون أخرى وأخرى.
الأخوين جريم
أتساءل، وبالتأكيد تساءل قبلي الكثيرون: هل كان محكومًا على برلين "كي تحيا من جديد يلزم أن تموت أولًا"، كما قال أحد الأدباء المعاصرين؟
من ذلك الركام وآليات الخراب والموت والدمار العمياء للنازية، والجوبلزية التي ما انفكت تتحسس سلاحها، كلما سمعت خشخشة القلم وحروف الشعر والموسيقى وصوت الحياة!
كيف لهذا الغُصين الخصب أن يورق، بـ: شيللر وكانط وهيجل، وموتسارت، بالمتاحف، بلوحات اللون، وبموزاييك الطبيعة، وكان ياما كان... ووو؟ إنها الحياة في تضاداتها، برلين الموت والحياة معًا، لكن الحياة للأبقى، للغصن المورق الأخضر دائمًا.
**
ذات يوم حصلت من أحد أقربائي على ألبوم صور، أتذكر وأنا في الإعدادية، صورًا عن برلين وألمانيا، مدينة المتاحف والناس والحفلات، والتماثيل المزدانة في الشوارع الوسيعة، وأطفال يلهون بألعاب ساحرة، هذا العالم الجميل الذي لا أعرفه إلا من خلال الصورة. ثم تلت معرفتي بألمانيا والعالم، روايات وقصص أهل قريتي والقرى المجاورة، وهم يروون مغامراتهم في البحر، و"بلاد الغدرة"(1)، وكيف كانوا يتلقون ضربات الطائرات والقصف المتواصل وهم على متن السفن، في حرب الجرمان -هتلر- هكذا كنت أسمعهم.
كانوا يروون قصصًا غرائبية من على متن سفنهم، عن القتلى والدمار والحرائق، يتأسون على تلك الأيام، فيجرون نهدة طويلة، ويقولون: "كانت أيام الله لا عادها"! وأنا أردد ما قاله أحد الأجداد من إحدى قرى اليمن البعيدة، حيث يروي مساحة الموت في برلين.. ويختتم بـ"الله لا عادها"، إنه سحر غُصين "أشن بوتيل" غُصين الحياة الملامس للقبعات والوجنات، وقبله يلامس الروح. الله يكون دومًا مع الغُصين، وإلا فكيف انتصر لأشن بوتيل، وهينزل وجريتل، "والله لا عادها أيام".
**
كان بعض المثقفين الذين مروا على ألمانيا، وتوقفوا ليتأملوا الحياة اليومية للشعب، يكتبون كيف يتنفسون ثقافة، فيعيروننا بأطفال وشباب ألمانيا، من أننا أميون، لا نقرأ، ويقولون عن الطفل الألماني، إنه جاد ونظامي، وإن فكره مورق على الدوام، فيظل يقرأ ويقرأ، ولا يترك لحظة تفر منه لا يستفيد منها عبر الكتاب، تراه في الطرقات، القطارات والحدائق وو، فالكتاب يلازمه، إنه شعب يقرأ، ومبتدأها، الطفولة تقرأ ليستمر اخضرار ذلك الغصين -التعويذة التي تحرس برلين وأطفالها، وكل أطفال وناس ألمانيا، من الأرواح الشريرة.
جزء من الجدار برلين 2009
وسمعت منذ عقود الحرب الباردة (خصوصًا من إذاعة "دويتش فيله"، التي كنت أواظب على سماعها في شبابي) عن ذلك الجدار الذي حول مساحة الروح والألفة إلى وحشة قاتلة، مرة أخرى، كان سحر الغصين الخصب يخلق من جدار الوحشة إلى نقوش وألوان من الونس والإناسة، نعم، إنه الغصن الذي أورق الشعر والموسيقى واللوحة والمتحف، والحكاية على الجدار.
**
كنت، ومنذ عقدين من الزمن، ربما، وأنا أتمنى أن تكتب لي زيارة إلى برلين، لكي أشاهد أنفاس الجدار، بالخطوط المخربشة، وبالألوان، بهتاف الصامتين، على حد تعبير أحد علماء الاجتماع "سيد عويس". وكنت ومازلت أسخر من ذلك التشبيه الذي يماهي بين وحدة اليمن عبر دحرجة البراميل، 22 مايو 1990، وبين وحدة ألمانيا عبر انهيار الجدار في 3 أكتوبر 1990..
الفرق ليس بين وحدتين اندماجيتين وتفاصيلهما المثيرة، ولن أدخل في أتونها، لكن الفروق واضحة: بين جدارين، جدار تحول إلى لوحة وجرافيتي غصونها متفرعة مورقة ومزهرة: ذاكرة، لتصبح ألمانيا بلا جدران متعصبة، وجدارن -براميل اليمن- إذ كل ساعة تتحول إلى نيران وجحيم وخرافة أننا يمن الوحدة والسلام. جدران كراهية وحروب ومليشيات تجثم على هامة الإنسان. نعم، مقارنة جائرة، بين جدار يتعشق ويستلذ بالجمال، ويخلق منه اللوحة والنحت والموسيقى والرقص والكرنفال، وو، وجدار حتى اللحظة يعد الفن خطيئة والمرأة عورة وصوتها دنس والنقاب فضيلة وشرف، والحياة فانية، والآخرة خير وأبقى، والقات غصن الجنة، والحرب مصنع الرجال، والإنسان سيد وعبد، والفقيه عالم، والأمي الجاهل نبي وحاكم.
كاتدرائية برلين2024
أعتقد أننا نحتاج أيضًا لغُصين أخضر يلامس رؤوسنا بلا قبعات، نحتاج إلى وريقة حناء -سندريلا من جديد، مثلما أنتم تحتاجون أيضًا لأشن بوتيل، والإنسانية أجمع تحتاج للأخوين جريم ليواصلا سرد الحكاية بـ:
كان ياما كان
حدوثة زمان
حكاية يرويها
الدهر والمكان
أخرى يطويها
العمر والنسيان
وهذه يحكيها
جريم الأخوان
إلى هنا والآن.
(1) بلاد الغدرة: كل ما يقع خارج اليمن!
**

مفارقات وجودية:

3 أكتوبر 2025، وهو بالمناسبة عيد الوحدة، أعيش في ألمانيا، منذ مارس 2021، وقبلهما 2009 -سنة كتابة النص أعلاه- لم أفكر يومًا، أو أتخيل، أن أكون هنا، أحيا حياة جديدة، وطن جديد متنوع، بعد أن كنت أقرأ حكايات وأساطير الأخوين جريم، وأكتب عنها، لأصبح اليوم في قلب الحكاية، أعيشها بتفاصيلها في الغابات وسيرورة الضياع والتشتت، والبحث عن بيت آمن، وصراع الخير والشر، وتحولات الفصول، وأعيش حكاية ملكة الثلج، بل أتحول طفلة ألعب ببياض الثلج، والورق الأصفر والأحمر لفصل الخريف، وأشجار الكرز في الربيع، وأتعلم في المدرسة حكاية "ليلى والذئب" باللغة الألمانية وبجانبي القواميس والتراجم، وبالرغم من الصعوبات، فارق اللغتين والثقافتين، أتهجأ حكايات -همس الجدات، التي عشتها في اليمن، وأصدرتها في 3 أجزاء ("حزاوي وريقة الحناء"، مفارقات صعبة ومتداخلة، يقربها متآلفة خيط الإناسة والتعايش، وبهجة البيت وأمانه، وقهوة الصباح والموسيقى، وتلاوين الشفق، وغابات بامتداد البصر، وقلاع سحرية، وموسيقى بملء الكون، كل يوم جديد في مدينتي الصغيرة "دارمشتات" للغصين الأكبر: ألمانيا -الملاذ والملجأ، صدق من قال "العالم صغير"! بروح الحكاية التي لم تنتهِ، بل تتخلق كل في كل آن!

الكلمات الدلالية