الحرب أم السلام؟
الحكَم: مشروع وطني وصندوق
إحدى عشرة سنة من الشتات. إحدى عشرة سنةَ فقدانٍ وخرابٍ لم تستفد منها بلادنا إلا أن تُنهبَ قوتُها، وتتفككَ عُرى مجتمعها. اليوم اليمن يئنّ من فوضى وأمن مفقودٍ وعيشٍ لا يطاق؛ والسبب واضح لكل ذي بصيرة: أعداءٌ خارجيونٌ يحيكونُ مخططاتهم، ويدٌ محليةٌ تَنْسِجُها ليبقى الشعب وحده ضحيةَ الأطماع.
لقد جربتم الحرب؟ كلّكم خضتموها في المدن والقرى، على الطرقات وفي البيوت. ماذا حققتم غير خسارةٍ مؤلمةٍ وذكرى ظلمٍ وجوعٍ وخراب ونزوح وهجرة وغربة وكربة.. ودموع تذرف على أطلال وطن؟
من ربحَ من حرق الوطن؟ من نهلَ من ألم الناس؟
لا شيء غير الكراسي المطلّة بالطمع، وثروات وطنية تُقسم على أيدي القتلة السياسيين، وعلى حساب مواطنٍ لا يملكُ إلا أن يفتشَ عن لقمةٍ تسدّ رمقه.
أشتمّ اليوم رائحةَ تأجيجٍ لحرب جديدة. هل نريد أن نشعل نارًا لا تُخمد؟
في غزة رأينا الدمارَ على يد قوّةٍ متغطرسة، وكان حق الدفاع واجبًا وإنسانيًا ودينيًا. لكنْ ليس كل قتالٍ مبررًا، ولا كل مَن يرفعُ السلاح يحملُ الحق.
في السودان شاهدنا كيف تُستغَل الصراعات في زعزعةِ وطنٍ وسلبِ إنسانٍ، حقوقه، فتتحول المعاركُ إلى جحيمٍ بلا نهايةٍ ولا أفقٍ للسلام.
إلى من يدعمُ الحرب من الشعب اليمني داخليًا أو خارجيًا، اسألوا أنفسكم: من هو العدو الحقيقي؟ أليست أطماعُ الحكم والثروة هي العدو؟ أليست هي التي تفرّقُ الشعب، وتجعله طريدةً سهلةً للنهب؟
قبل أن تلوحوا بالسيف، اسألوا ماذا جنيتم من سابقها؟ هل أنتم مستعدون لرؤية مدنٍ تسقط، أطفالٍ يموتون جوعًا، وذاكرة وطنٍ تُمحى؟
إذا أردنا أن نقرأ واقعنا بصدقٍ، فعلينا أن نؤكد على حقيقةٍ بسيطةٍ لا تُدانَس ولا تُصارَف: تذكّروا أن الوطن ليس ملكًا لجماعةٍ أو فردٍ، ولا هناك سيدٌ وعبدٌ. الوطن بيتُ الجميع ومقدّسٌ للجميع؛ لا سلطان لأحد عليه، ولا تفويض خاصًا لمن يهوى الاحتكار.
أدعو مَن يُطلِقون على أنفسهم اسمَ الشرعية، إلى أن يعودوا إلى الوطن إن كانوا يريدون أن يصدقهم الناس. لا حربَ بلا إعلانٍ صريح، ولا قتالَ دون فتح باب السلام والصلح برغبة حقيقية أمام العالم.
أعلنوا على الملأ ميثاقًا للعدالة والمساءلة، دعوا الحيادَ يقف شاهدًا، وتخلّوا عن الولاءات الخارجية، لتمتلكو قراركم السيادي إذا كنتم على حقٍ، فواجهوا الآخر بالحجة لا بالسلاح، ولتكن نتائجُ الحوارِ سندًا مشروعيًا أمام العالم.
وإذا كان طرفُ الصراع الآخر متمردًا أو رافضًا للصلح والسلام، عليه أن يتذكر أيضًا أن الوطن ليس ملكًا لجماعةٍ ولا فرد. الوطن بيتُ الجميع، ومصيرُهُ لا يُقاس برغبةِ فئةٍ ضيقة. من يريد الخير لليمن فليفكّر بعقولٍ باردةٍ وقلوبٍ رحيمة، وليدرك أن الحفاظ على ما تبقّى من الوطن أهمّ من رغبةِ بعض النفوس في الكرسي.
إلى من يسمون أنفسهم أنصار الله: أدعُوكم أن تضعوا عقولَكم على المحك قبل سلاحِكم، وضميرَكم قبل مصالحِكم. أنتم يا من تسيطرون على أبواب صنعاء السبعة، وتحكمون قبضتكم عليها بأقفال قابلة للكسر، عليكم أن تُفتحْوا أبوابَ صنعاء لكلّ أبنائها، ليدخلوها بسلام، آمنين، ليجلس الجميع دون استثناء أحد.. كان معكم ومعهم أو ضدكم وضدهم، بينكم أو خارج عنكم وعنهم، إلى طاولةِ حوارٍ تكون هي الفيصل. ليكون الحكم بين الجميع صندوقٌ ونزاهةٌ، ومشروعُ وطنٍ نستعيدُ به كرامتنا وحياتنا...
الخلاص من واقعنا المخزي بين الشعوب، ليس في القتل، ولا في التشريد؛ الخلاص في وقفِ نزيف الدم، في بناء مؤسساتٍ دولة مستقرةٍ، في توزيعٍ عادلٍ للثروة، وفي إنصافِ المتضررين. دعوا الشبابَ يعملوا، ودعوا المعلمين والأطباء وكل فئات الشعب المختلفة يتقاضوا رواتبهم، ودعوا الدواءَ والطعامَ يصلا إلى المحتاجين بلا سرقاتٍ ولا نهب.
إذا كنا جميعًا نحبّ اليمن حقًّا، فلنقف معًا: ضدّ الفوضى، ضدّ الاستغلال، ومع السلام الحقيقي الذي يُعيدُ للناس حياتَهم. إن لم يسعكم إلا الكرسي، فاعلموا أن التاريخ لا يرحم من اختار الدم على الحوار، وأن الشعب سيحاسب مَن باعوه. ولنجعل الخيار الحقيقي
صندوق ومشروع وطن، خيارًا يهدِي اليمنَ إلى السلام والاستقرار. لا حرب بعد اليوم إلا دفاعًا عن الكرامة والوجود.
والله غالب على أمره.