صنعاء 19C امطار خفيفة

ماكينة أمي

ماكينة أمي
كبرت أمي،
ولم تظهر عليها ملامح الشيخوخة،
كأننا كنّا منشغلين عنها،
فلم نلحظ كيف كانت
تتآكل بصمت.
ومع مرور الوقت، بدأت علامات التعب تظهر، لا على وجهها، بل في تفاصيل يومها.
حين أرهقت عيناها،
وأنهكها المرض،
توقفت يدها عن الخياطة،
وغاب عنا صوت الماكينة،
ذلك الضجيج الذي كان
يملأ البيت وكأنه نبضه.
الآن، الصمت وحده يخيط.
كنت أراها هناك، قرب الباب،
جالسةً فوق ماكينة الخياطة،
تحيط بها قصاصات قماش مبعثرة،
تخيط بصمت، كما اعتادت أن تفعل في الليل.
لم تكن تحب العمل في النهار،
كانت تفضّل السهر،
ونحن ننام على صوت عزف ماكينتها.
في ليالي الشتاء،
كانت الريح تتسلل من باب البيت،
وهي جالسة قرب الماكينة،
تلفّ كتفيها بشالٍ قديم بني اللون،
ثم تنهض بهدوء، دون شكوى،
تسدّ الشقوق الصغيرة بقطعة قماش،
تلك التي لا يراها أحدٌ سواها.
كانت تسهر وحدها،
تفكر في الأيام التي مضت،
في أطفالها الذين كبروا،
وفي أحلامٍ اتسعت أكثر مما تحتمل.
لا أحد منا يعرف ما كان يدور في لياليها الطويلة.
هل شعرت بالرضا؟
أم كان الحزن يسكنها؟
أم أنهكها التعب؟
لا ندري.
وحين نستيقظ للمدرسة في الصباحات الباكرة،
كانت لاتزال جالسة فوق ماكينتها،
كأن الليل لم ينتهِ عندها بعد.
كأنها تنسج لنا تباشير الصباح في ليلها،
كم كنتُ سعيدًا حين تقول لي:
"اذهب لمحل التجريم، لتجريم الملابس".
كنت أخرج من البيت،
وفي قلبي شيءٌ يشبه الفخر،
كأنني أشاركها تعبها وسهرها،
تلك السعادة التي تنتاب الأطفال حين يقدمون شيئًا لذويهم.
ورغم كل ذلك، كان الحزن ينتابني،
حزنًا صامتًا لا أُظهره،
كلما طلبت منا أن نُدخل الخيط في الإبرة.
كانت يدها ترتجف قليلًا، وكأن شيئًا منها بدأ يذبل.
وأنا أُمازحها: "ها قد كبرتِ".
فترد منكرة...
ثم بدأت تترك الأشياء، شيئًا فشيئًا،
تركت الغسيل الذي كانت تنشره بترتيبٍ يشبه القصائد،
وتركت قمصاننا التي كانت ترتقها وكأنها ترتق لنا الدفء،
وتركت الطبيخ الذي كان يملأ البيت برائحتها،
وتركت سهرتها مع ماكينتها، كحارسٍ يسهر ليحمينا.
حتى الماكينة، تلك التي لم تهدأ يومًا،
تركتها مرميةً في بيت الجيران،
لم تجد لها مشتريًا،
وكأنها فقدت قيمتها حين توقفت يدها عن العمل.
ومنذ ذلك الحين،
أصبحت أكثر عصبية،
كأن شيئًا انكسر فيها،
كأن اليد التي كانت تخيط الطمأنينة،
لم تعد تعرف كيف تُسكِت القلق.
وحين سافرنا أنا وأخي لزيارتها،
عانقتنا كما لو كانت تحاول أن تستعيد شيئًا فاتها.
نظرت إلينا وقالت بصوتٍ خافت: "وحشتوني كثير".
ابتسمت، وسألتها: "من جد؟".
أجابت دون تردد: "نعم".
كأن في ردّها شيءٌ من العتاب.
مع إنها منحتنا كل شيء،
ولم نمنحها حتى انتباهًا
يليق بتعبها الصامت.
مازلنا نرتّق الغياب،
نحاول أن نخيط الأيام من جديد،
بخيطٍ من الذكرى،
وإبرةٍ من الحنين،
لكن الغياب واسع... وما زلنا نرتق، لعلنا.

الكلمات الدلالية