تعز.. 10 سنوات من الفوضى والجريمة
قبل أن تُصبح تعز "مدينة العصابات المسلحة"، كانت تعرف بتاريخها ومثقفيها ومقاهيها. بأنها رئة اليمن المتحضرة، لكن منذ أن أحكم حزب الإصلاح قبضته على المحافظة عام 2015، تحولت المدينة من مسرحٍ للحداثة إلى "كراج كبير" تترجل فيه المليشيات المسماة بالجيش، ويُدار أمنها كإقطاعية شخصية لقادة الحزب.
منذ اليوم الأول لمعركة تعز ضد الحوثي، لم يكن همّ الإصلاح التحرير، بل الاستيلاء على المدينة. جرى استقدام المطلوبين أمنيًا وإلباسهم بزات عسكرية، ثم تُوّجت هذه العملية المبتكرة بمنحهم رتبًا عسكرية، ولا عجب أن تتحول "مؤسسة الجيش" في تعز إلى مجرد لافتة معلقة فوق رؤوس عصابات منظمة.
بضربة سحرية أنشأ الإخوان ألوية وكتائب ضمت عشرات الآلاف. على الورق، جيشٌ مكتمل الصفوف. على الأرض، مليشيات عقائدية تدين بالولاء للحزب. بل وصل الأمر إلى ابتكار تشكيلات خاصة مثل "كتائب حسم" التي استقبلت عناصر القاعدة الفارين من الجنوب لتتحول لاحقًا إلى الذراع الضاربة ضد المدنيين، محمية برعاية محور تعز العسكري.
حين كان يفترض أن تصوَّب البنادق نحو الحوثي، قرر الإصلاح أن العدو الحقيقي ليس على الجبهة، بل في كتائب أبي العباس، أو في منطقة الحجرية أو حتى داخل اللواء 35 مدرع. لم يكن مستغربًا إذن أن تنتهي حياة عدنان الحمادي -صاحب الطلقة الأولى ضد الانقلاب- برصاصة غادرة في جريمة لا تحتاج كثيرًا من الذكاء لمعرفة من المستفيد منها.
الجيش في تعز لم يعد بحاجة إلى الكليات الحربية. فالتربية والتعليم مثلًا قدمت خدمات جليلة: مدرس لغة عربية صار قائدًا للواء، وموجه تربوي أصبح رئيس عمليات، بل حتى بائعون وتجار وذوو سوابق صاروا قادة أركان. أما عبده فرحان المخلافي المستشار العسكري للمحور، والشهير بـ"سالم الدست"، المسجل كمدرس في قوائم مكتب التربية والتعليم، فقد صار الرجل الذي يقرر من يُقتل، ومن يُعتقل، ومن يُطلق سراحه. هكذا أصبح جيش تعز "أكاديمية شعبية مفتوحة" للترقي السريع.
حين ضاق بهم الجيش النظامي، أنشأوا نسخة موازية: مليشيا الحشد الشعبي تخضع مباشرة لمستشار المحور. مهمتها واضحة: السيطرة على كل أجهزة الدولة، وتحويلها إلى مكاتب ملحقة بالحزب. وفي أزقة المدينة، تولى المراهقون المدججون بالسلاح مهمة بث الرعب كنسخة محلية من "أشبال الخلافة" لكن بغطاء رسمي.
أما شرطة تعز فقد جُمّدت كليًا: تسعة آلاف ضابط وجندي خارج الخدمة، واستُبدلوا بجنود من اللواء 22 ميكا. النتيجة؟ الأمن تحوّل إلى فرع من فروع الإصلاح يُدار حسب المزاج السياسي، ويُستخدم لملاحقة الناشطين لا القتلة. السجون السرية امتلأت بناشطين، أبرزهم الناشطان أيوب الصالحي وأكرم حميد، بينما القتلة يتجولون في الشوارع تحت حماية رسمية.
الماكينة الإعلامية للحزب لم تترك جريمة إلا وحولتها إلى "مجهول". المقابر الجماعية؟ مجهول. الاختطافات؟ مجهول. الاغتيالات؟ أيضًا مجهول. لكن المجهول هذا كان معروفًا لدى الجميع. الإعلام هنا لا يبرئ القتلة فحسب، بل يجرّم الضحايا إن لزم الأمر.
خلاصة عقد من الفوضى أن الإصلاح انفرد بالقرار العسكري والأمني، واستحوذ على الدعم المالي والعسكري القادم باسم الشرعية، وحوّل تعز إلى ثكنة حزبية لا مدينة. صار القانون حبرًا على ورق، والمؤسسات واجهات خاوية، والدماء أرخص من البيانات.
تعز اليوم لا تعيش في ظل دولة، بل في ظل شركة عائلية مسلحة شعارها "الجيش والأمن"، وغايتها السيطرة والنهب. فهل ستبقى المدينة أسيرة هذا النموذج العبثي، أم ستنتج لحظة افتهان المشهري أخرى، تُسقط فيها الورقة الأخيرة من يد الحزب، وتُعيد تعريف الجيش والأمن كجزء من الدولة لا كذراع لعصابة؟