حتى لا تنحرف البوصلة
حين تطفو على السطح كتلة التناقضات القاتلة التي تنخر كيان البلد... الوطن برمته، فتلك لحظة تتطلب مواجهة الحقيقة كما تتضمنها الحقيقة المؤلمة وما يعتمل بداخلها من تناقضات جوهرية لم تأتِ من العدم، لكنها من صنع البشر، طبعًا ليس كل البشر...
التناقضات لا تولد من فراغ، لكنها تولد ويتعاظم أثرها السيئ من أبعادها الاجتماعية المعبرة عن هيمنة وسيطرة عنصر القوة أيًا كان مسماها اقتصاديًا... طبقيًا.. دينيًا، هي في الأخير تعبير فج عن تشويه متعمد لحقائق على الأرض كان مفترضًا بها أن تعبر عن مصالح الكل، لكن رغبة التسلط عبر إعمال مبدأ القوة وسيلة للسيطرة والتسيد، هو ما يدفع بالأمور للوصول لحالة انفجار متى حصل تنقشع سحابات الغيوم الداكنة التي كانت تغطي ما يجري ويسود من تناقضات حادة تتم حمايتها إن مسها ضرر أو حاول البعض وله كامل الحق أن يعدل كفة الميزان، لكن بمفهوم من يرتعي بحقل المتناقضات التي زرعها ونماها وحماها عبر وسائل التسلط والابتزاز، وله وسائله التي يشرعنها ويثبتها بوسائل شتى تتمثل بإضعاف مفهوم دولة النظام والقانون وسيادة إعمال المؤسسات لتصبح الأمور أنا والكل أنا والدولة والقانون أنا طبعًا، ليس تصريحًا، لكن مضمون ما يتجلى بالواقع يعبر عن هذا التناقض الحاد القاتل، وتأتي لحظة الخلاص من هكذا وضع مكلفًا مدمرًا يدفع البلد والناس ثمنًا باهظًا تحدث آثارًا مدمرة على البنية الوطنية الهشة الناجمة عن تناقضات رئيسية ناجمة عن تشويه عمدي لسوء توزيع الثروة والسلطة بين كيانات مجتمع جرى ويجري عمدًا تغييبها، بل بعض الأحيان إلغاء وجودها...
ونحن بمرحلة تبين معها أن ما جرى من عملية اغتيال لافتهان المشهري ليست منفصلة عن مسارات تناقضات حادة تنخر جسد بلد أموره السياسية والاقتصادية والأمنية، وعلى رأسها العلاقات الاجتماعية بين البشر، ليست سوية على الإطلاق، ما يسود عبارة عن علاقات تبعية وإذلال وسيطرة تعبر عنها مظاهر استخدام القوة بكل معانيها، ولدتها حالة حروب مستمرة تمارسها قوى مسيطرة لا تسمح مطلقًا بما يمكنه من مجرد المس أو يمس مكتسباتها.. أمور كهذه تعتبر من المحرمات تتم مقاومتها بشراسة.
كما تتجلى وقائع تشير لمحاولات الالتفاف على ملف خلفيات اغتيال افتهان... مايزال الناس ينظرون لعملية اغتيال الراحلة افتهان باعتبارها حدثًا وشرخًا في واقع مليء بالتناقضات.. عملية اغتيال مثلت مشهدًا دراميًا تدحرجت معها تناقضات حادة تنخر جسد كل من المواطن والوطن. وحين حانت لحظة المواجهة لإعادة تصحيح المسار، وجدنا القراءات تتباين والمصالح تتضارب والوجوه تتغير وتتبدل، بينما المفترض ونحن نبحث عن خارطة للطريق للخروج بالوطن والمواطن من حالة الموت التي تفرض عليه يوميًا بمعولي التناقضات التي تم عمدًا استزراعها وتسهيل عمليات نموها ليتبعها شرعنة للحرب، وإن بأشكال عدة.
طبعًا الكل يفهم ويدرك أن التناقضات بمجملها وأيًا كانت تعبيراتها، تتطلب لمواجهتها أساليب ومواجهات تختلف، فتناقصات الإقطاع غير تناقضات السوق المشوهة، ومن هنا تنشأ ضرورة كيفية التعامل مع جملة التناقضات القاتلة التي تعصف بحال بلادنا العليل التي تتطلب بالضرورة والوعي أولًا وحدة الاصطفاف الوطني، وثانيًا عدم تمترس كل فصيل خلف منطلقاته وحقائبه ومصالحه الذاتية، بخاصة وقد هيأت عملية اغتيال افتهان مناخًا لخلق واقع لتواصل واصطفاف وطني حقيقي على المستوى الوطني كله، يتطلب معه تكاتفًا وتواصلًا يعمل على قطع الطريق على أية محاولات تستهدف تحقيق جملة من المغالطات تؤدي لتمييع ما وراء عملية اغتيال افتهان، وغيرها من عمليات اغتيالات ماتزال ملفاتها مفتوحة.. إنها لحظة تاريخية تتطلب تكاتفًا وطنيًا حقيقيًا بعيدًا عن المناكفات والتمييع.
اللحظات النادرة في التاريخ لا تأتي من بزار العطايا والهبات، لكنها تأتي تعبيرًا يشير إلى أن لحظة تاريخية تحمل معاني مغايرة لأوضاع تناقضاتها قاتلة، وحان أجل التعامل معها بوعي ووحدة رؤية واصطفاف وطني حقيقي واسع بعيدًا عن المزايدات والتهم الجاهزة، وما هو ماثل حاليًا في تعز وغيرها من أرجاء البلاد، يشير لذلك، وهنا بيت القصيد على من يمارس السياسة الحقة إجادة قراءة المشهد بعيدًا عن هيكل المعبد البات فاقدًا زخم الشارع وتطلعات الناس السياسية والاقتصادية وغيرها، والسياسة كما يعرف الكل ليست عبادة نصوص وعبدة أصنام وسيادة مفردات يقدمها قديسو المركز المقدس وحقائب المال وسدنة أولياء الأمر من أمناء ومشايخ ومراكز نفوذ وظيفي وتمويل يشوه ولا يساعد على الإنتاج، لكنه مع الأسف يساعد على التفتيت والتمييع، وما لا يريده المشهد الكلي في بلدنا الجريح.
ختامًا أكرر القول بأن اللحظات النادرة في تاريخ الشعوب لا تأتي جزافًا يجب اقتناصها والبناء عليها، فما فقدناه في البرية لن نجده في الرماد.