تعز.. حين يبتسم القتلة في صور رسمية
منذ سنوات تعيش تعز تحت إدارة تبدو كإدارة محلية، لكنها في الحقيقة نسخة مطوّرة من "إدارة مافيا" كلاسيكية. بدل أن يكون المقر في سرداب مظلم أصبح في مكاتب رسمية، وبدل أن تُدار العمليات عبر إشارات سرية تتم من على منصات الفيسبوك وإكس. باختصار.. تعز ليست مدينة، بل متحف حيّ للجريمة المنظمة.
اغتيال افتهان المشهري لم يكن مجرد جريمة في مسلسل القتل المجاني الذي اعتادته المدينة، بل كان زلزالًا سياسيًا كشف أن الناس لم يعودوا يقبلون برؤية الأدوات تُقدَّم قربانًا، بل يريدون المنظومة برؤوسها الكبيرة لا ذيولها الصغيرة. الإصلاح جَرَّب وصفته القديمة: "الرهان على الوقت"، لكن الوقت هذه المرة خرج عن الخدمة مثل شبكة الكهرباء والماء في ظهيرة تعزية.
حين رأى الحزب أن الغضب الشعبي أكبر من قدرته على تغطيته بطلاء البيانات، استدعى ورقة "المناطقية" من خلال منشورات بعض أعضائه. فجأة صار كل خراب المدينة ذنب أبناء شرعب ومخلاف، وكأن من يدير الألوية العسكرية ويقتسم الغنائم ويأمر بالاغتيالات، يعيش في المريخ. المشكلة أن هذه الحيلة لم تعد تنطلي حتى على الأطفال الذين يبيعون المناديل الورقية في شوارع تعز، فتحولت التهمة إلى مادة سخرية واسعة على مواقع التواصل.
وحين فشلت الورقة المناطقية أخرجت الجماعة فزّاعة "الحوثي". هكذا، كل دعوة لتفكيك منظومة الجريمة في تعز تُعتبر تلقائيًا خدمة للحوثي. وكأن الناس في الشارع لم يكتشفوا بعد أن أخطر ما يهدد تعز ليس خارج أسوارها، بل داخلها: عصابة تضع على كتفيها رتبًا عسكرية، وتتصرف كقطاع طرق.
خذ مثلًا قضية بكر صادق سرحان، الرجل محكوم بالإعدام منذ عام كامل، لقتله رجل الأعمال أحمد الزوقري، ونهب شركته، ومع ذلك ظل يتنقل بحرية، ويصافح كبار القادة أمام عدسات الكاميرا. وحين اغتيلت افتهان تبيّن أنه أحد اللاعبين الكبار في المشهد. فإذا كان المحكوم بالإعدام يقود كتيبة رسمية، فما الفرق بين الجيش والعصابة؟ يبدو أن تعريف الدولة عند هوبز قد يحتاج إلى ملحق "تعزّي" خاص.
ولن ننسى بطل مسرحيات الإفراج المتكررة غزوان المخلافي. يُقبض عليه صباحًا ويُطلق سراحه مساءً، حتى في قضايا قتل أطفال بدم بارد. مرة قالوا: "لم يتقدم أحد بشكوى رسمية ضده"، وكأن جريمة مشهودة لا تُحسب إن لم يملأ أحد الاستمارة المخصّصة بالشكاوى.
الحاصل اليوم محاولة لإرضاء الشارع عبر ذبح "الأدوات" والإبقاء على "الرأس". إن خمد الغضب ستعود الأدوات ذاتها للتجوال، وإن استمر فقد يُضحّى ببعضهم لإطالة عمر المنظومة. لعبة القط والفأر ذاتها، لكن مع تبديل الأزياء.
تعز، إذن، ليست مجرد مدينة منكوبة، إنها أطروحة دكتوراه في كيفية تحويل مؤسسات الدولة إلى مؤسسات جريمة. الإصلاح يواجه أسوأ مأزق منذ عقد: الشارع لم يعد يصرخ لافتهان فقط، بل لضحايا تاريخ طويل من الدم والنهب. فهل تكون قضية افتهان "القشة" التي قصمت ظهر البعير، أم مجرد حلقة إضافية في مسلسل "إصلاحي" طويل؟