عبدالغني مطهر.. تجربة نضالية ملهمة في سبيل الثورة

عبد الرحمن مطهر
تستمد أية ثورة قيمتها التاريخية من عظمة وأدوار أبطالها ورموزها الوطنية، كما تبقى تلك التضحيات بمثابة وقود وشعلة لاستمرار مشروع الثورة بالتطور والنهضة والبناء.
فمثل كل الثورات وحركات التحرر العالمية، تزخر الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر، بالعشرات من الرموز والأبطال، غير أن الكثير من أبطال ثورتنا لم يحظوا بأي قدر من الحفظ لأدوارهم البطولية، ومنهم من أغفل ذكره عمدًا لأسباب سياسية وأخرى غير مفهومة.
المناضل عبدالغني مطهر أحد هؤلاء الرواد الذين سطروا أدوارًا نضالية عظيمة تعكس عظمة الشعب اليمني، ومدى تطلعه للانعتاق من ربقة ظلم واستبداد الحكم الملكي الكهنوتي.
عايش عبدالغني مطهر، وشارك في كافة مراحل الثورة والإعداد والتخطيط لها والمساهمة في الدفع بعجلة التغيير وإسقاط الحكم الكهنوتي منذ أربعينيات القرن الماضي، بوعي الشخص المعايش والفاحص لأوضاع الناس في محيطه المجتمعي وواقع اغترابه في بلاد المهجر.
بدأ مطهر رحلة اغترابه في مطلع الثلاثينيات، وكانت وجهته كحال كل اليمنيين إلى عدن، ومنها إلى إفريقيا، والتي وعى خلالها واقع الحال الذي يعيشه اليمن من ظلم وما يعانيه أبناؤه في الداخل والخارج من أوضاع مأساوية، حتمت عليه أن يكون له دور محوري في القضاء على النظام الكهنوتي.
فبدأ نسج علاقات وطيدة بالعديد من رموز الثورة في المهجر، وعلى رأسهم أحمد عبده ناشر، الذي كان همزة الوصل بينه وبين بقية الثوار، ليمارس دوره النضالي والوطني من خلال الجمعية اليمنية الكبرى في العام 1945م، وعمله في خلية أديس أبابا مع مجموعة من الأحرار الوطنيين.
وبالرغم من فشل حركة 48 وإعدام الإمام وسجن العشرات من قادتها في الداخل، وما ولدته من حالة إحباط وخوف في صفوف الكثيرين من الأحرار، إلا أن الخلية الوطنية في أديس أبابا كان لها رأي آخر، ومنهم عبدالغني مطهر، إذ أصدرت بيانًا عقب الإعلان عن فشل الحركة، بالاستمرار في مواصلة العمل الوطني حتى القضاء على النظام الكهنوتي الإمامي.. وبعيدًا عن الجمعية اليمنية الكبرى التي دب الخلاف في أوساط قيادتها.
واصل عبدالغني مطهر مع رفاقه الأحرار نضاله الوطني بالدعم المادي للأحرار، والتوعية في أوساط اليمنيين في المهجر بضرورة القضاء على النظام الكهنوتي، خصوصًا مع توالي النكسات التي منيت بها الحركة الوطنية، بعد فشل حركتي 48 و55، وما تولد من إحباط في صفوف الجماهير.
بعد دراسة معمقة ومراجعة دقيقة لما أسفرت عنه نتائج فشل الأحرار في 48 و55، قرر مطهر العودة إلى أرض الوطن من أجل العمل الوطني من الداخل، ومن أوساط الناس، ليكون أكثر قربًا من معاناتهم. وبعد تصفية كافة أعماله التجارية في المهجر، عاد مطهر إلى تعز لتكون منطلقًا لنضاله الوطني، وفيها أسس أول خلية ثورية عملت على التخطيط للقضاء على النظام الكهنوتي إلى غير رجعة.
عمل عبدالغني مطهر مع كوكبة من الأحرار الوطنيين من مشايخ وتجار وعسكريين ومدنيين، لا يتسع المقام لذكرهم، جرى استقطابهم بعناية من خلال تحركات مكثفة في أوساط الناس في تعز، بعد أن بدأ فيها عملًا تجاريًا عقب عودته من المهجر، وشكلت هذه الكوكبة الخلية الوطنية الأولى التي خططت واعدت لقيام ثورة 26 سبتمبر المجيدة.
يقول مطهر، إنه لمس من كل لقاءاته المعاناة الشديدة التي كان يرزح تحت وطأتها المواطنون جراء مفاسد النظام الإمامي الكهنوتي. غير أنهم عُزّل من السلاح، ولا يملكون أية وسيلة لتغيير واقعهم الذي يشكون منه.
من أجل ذلك، قرر مطهر التوجه للعمل في صفوف العسكريين الذين يملكون العدة والسلاح والتدريب، ودراسة مدى استعدادهم للقيام بالثورة، قبل أن يبحث ذلك مع الفئات الأخرى من تجار ومشايخ وعلماء ومثقفين. لينتهي المطاف بتشكيل الخلية الرئيسية في تعز، مطلع العام 1958م.
بالرغم من المخاطر الكبيرة التي كانت تحيط بالعمل الوطني، قرر عبدالغني مطهر أن يحدث اختراقًا كبيرًا في بنية النظام الإمامي، من خلال مساهمته التجارية في شركة المحروقات وشركة الطيران اليمنية اللتين كان الإمام مساهمًا فيهما بـ51 في المائة، التي أتاحت لمطهر أن يكون مطلعًا على الكثير مما يدور في أروقة قصر الإمام وأسراره، وتسهيل الكثير من تحركات الثوار، وتغطية العديد من المهام في مراحل الإعداد للثورة.
كما مكن هذا الاختراق، عبدالغني مطهر من فتح خطوط تواصل مع المسؤولين من مواطني جمهورية مصر الشقيقية والمقيمين في تعز أو الوافدين إليها، كما فتح علاقات واسعة مع الوفود المصرية التي كانت تزور اليمن، بما فيها البعثة العسكرية المصرية، والتي كانت تلك الوفود تعود محملة بالتقارير عن نشاط وتحركات الأحرار والتخطيط للثورة للإطاحة بالحكم الإمامي في اليمن.
بالمقابل، فتح مطهر خطوط تواصل موازية مع الضباط الأحرار في تعز، وكان لذلك التواصل دوره الفاعل في الترتيب لقيام الثورة.
في شهر أبريل من عام 1962م، أي قبل قيام الثورة بعدة أشهر، اختار الثوار عبدالغني مطهر للسفر إلى القاهرة للقاء القيادة المصرية، وتقديم صورة واضحة للموقف في اليمن وسير الترتيبات للإطاحة بالحكم الإمامي، خصوصًا بعد تضارب وتناقض التقارير التي كانت ترد من التنظيمات الثورية في اليمن إلى القيادة المصرية، وما تركته من إرباك في الموقف، وبدأ الشك يتسرب إلى القيادة المصرية بعدم جدية العمل الثوري في اليمن.
نجح عبدالغني مطهر، من خلال رحلته إلى القاهرة، بإقناع القيادة المصرية بجدية الأحرار في اليمن لتفجير الثورة، وقدم، بالتعاون مع الدكتور عبدالرحمن البيضاني، تقريرًا مفصلًا عن الوضع الراهن، ومدى استعداد وجدية التنظيمات الثورية للقضاء على النظام الكهنوتي الإمامي.
كما عقد لقاءات مكثفة مع المسؤولين المصريين في القاهرة، وناقش معهم بشكل مستفيض مختلف الأوضاع في اليمن، والترتيب لتفجير الثورة، والتعاون والدعم بالأسلحة التي ستصل إلى اليمن، وتحديد يوم الـ23 من شهر يوليو موعدًا لقيام الثورة بحسب طلب المصريين.
ولما كانت تعز مقرًا دائمًا للحكم الإمامي، وتواجد الإمام أحمد فيها، تقرر أن تكون تعز هي نقطة تفجير، وعملت حينها خلية تعز برئاسة عبدالغني مطهر على الإعداد والتخطيط المحكم لتفجير الوضع يوم السادس والعشرين من سبتمبر، بعد أن جرى تعديل الموعد المحدد من قبل القيادة المصرية، غير أن وفاة الإمام أحمد غيرت كل ما تم التخطيط له، وتقرر نقل تفجير الثورة إلى صنعاء بسبب تواجد الإمام البدر فيها، تجشمت معه خلية تعز متاعب إضافية، بنقل الأسلحة والعتاد إلى صنعاء بصورة محاطة بالسرية والدقة، مخافة انكشاف ذلك، وكان الدور الأبرز في ذلك لعبدالغني مطهر.
في يوم الثورة الخالدة، كان عبدالغني مطهر، مسؤولًا عن سير وترتيب إسقاط مدينة تعز، فور انطلاق ساعة الصفر وإعلان الثورة من صنعاء، ونجح مطهر ومن معه من قيادة خلية تعز، في إسقاط المدينة دون أي قتال، كما أشرف بنفسه على سير كل العمليات العسكرية والمدنية، وحشد الجماهير لتأييد الثورة والابتهاح بالقضاء على نظام الإمامة إلى غير رجعة.
عقب قيام الثورة شغل مطهر عدة مناصب قيادية في الدولة الوليدة، منها عضو مجلس قيادة الثورة ووزيرًا في حكومة الثورة الجديدة، ثم عين محافظًا للواء تعز، وكان آخر منصب شغله، قبل انحراف مسار الثورة إلى حركة انقلابية بات يعرف بانقلاب 5 نوفمبر الذي أطاح بالزعيم المشير عبدالله السلال، وانعكس ذلك على كل من عمل معه، بمن فيهم عبدالغني مطهر الذي أودع السجن، ونفي من اليمن بعد ثلاث سنوات من الحبس، دون أن يشفع له لدى رفاقه ما قدمه من تضحيات جسيمة، وبذله السخي بالأموال في سبيل الثورة وإنجاح مشروعها.
مثل كل ذلك تجربة نضالية ملهمة مليئة للاجيال، دوَّن جزءًا كبيرًا منها في كتاب له حمل عنوان «يوم ولد اليمن مجده»، ومنه استلهمنا هذه السطور.