محسن العيني(١٩٣٢ - ٢٠٢١)*

محسن العيني
ولد محسن أحمد العيني في عام 1932 في قرية الحمامي القريبة من صنعاء .تيتّم في السابعة من عمره والتحق بمكتب الأيتام ودرس فيه المستوى الإبتدائي ثم واصل تعليمه في مدرسة حكومية حديثة الإنشاء. أرسل إلى خارج اليمن للتعليم عام 1947، أولا في لبنان ثم في مصر كواحد من بعثة الأربعين الشهيرة. في 1955أرسله الإمام أحمد للدراسة للمرة الثانية في باريس. ألهمته تجاربه تأليفه لأول كتبه " معارك ومؤمرات ضد قضية اليمن" الذي نشر في دمشق عام 1957ونقد فيه بقوة الركود الاجتماعي والسياسي في اليمن.مما كتب فيه "نحن في القرن العشرين وشعبنا لايعرف شيئا عن الطرق المعبدة، الموانئ،الألات، المصانع، العمال، رجال الأعمال والمشروعات". عندحضوره في الحديدة ذكرى انتصار الإمام أحمد على الانقلاب الذي قتل والده، الإمام يحي عام 1948، رد في الحفل على علي عقبات الخطيب المفوه الذي يعني إسمه حرفيا بالانجليزية Obstacles "عقبات"، والذي انتقد أولئك الذين يرتدون بنطلونات ويأكلون بالملعقة والشوكة، بقوله " إن اليمن متخلفة بسبب هذه العقبات في طريق التقدم الذي يريد الإمام إحداثه". وكان هذا نموج لإصرار العيني على قول مايراه مُساعدا على التغلب على المعارضين للتغيير.
النشاط السياسي المبكر:
أضر نشاط العيني السياسي بدراسته في السوربون وتسبب بفقدانه منحته وعودته إلى القاهرة لدراسة القانون. بعد تخرجه اختار أن يعمل في عدن بدلا من صنعاء أو تعز ، مقر الحكومة في عهد الإمام أحمد( 1948 - 1962). درّس العيني في المعهد العلمي الإسلامي الذي
كان المؤسسة التعليمية الوحيدة التي تقبل اليمنيين الشماليين أثناء الحقبة الكولونيالية البريطانية.ذكاؤه ونشاطه السياسي مكناه من يصبح الأمين العام لاتحاد المعلمين بعدن وعضو منتخب في المجلس التنفيذي لاتحاد العمال العرب وعلى خلفية ذلك تم ترحيله من قبل الحاكم البريطاني. عاد إلى القاهرة ليستأنف نشاطه مع حركة الأحرار اليمنيين، وأن ينضم إلى حزب البعث عام 1958.
الزواج:
في عام 1961 تزوج العيني زواجا تقليديا من عزيزة عبد الله أبو لحوم التي سافرت من صنعاء لتتزوج رجلا لم تره من قبل.عزيزة هي أخت الشيخ سنان أبو لحوم أحد المعارضين القبليين المهمين للإمام أحمد وشيخ رئيسي في قبيلة بكيل.لم يكن المستوى التعليمي لعزيزة في صنعاء مرضٍ لطموحات الزوج. أخبرني أنه أدرك أنه من غير الممكن في عمرها أن تلتحق بمدرسة وكإبنة لشيخ أن تتولى مدرِّسة خاصة تعليمها ولذلك وظف سيدة مصرية ك"مساعدة في البيت" ولكن عملها الرئيسي كان تعليم العروسة بدون إشعارها بالغرض الأساسي لعملها في المنزل.عزيزة أصبحت كاتبة روائية وقد ترجمت رواياتها إلى عدة لغات.

قيام الجمهورية:
عندما نشبت الثورة في 26 سبتمبر 1962 في صنعاء، كان العيني في بغداد في مهمة لاتحاد العمال العرب.كان غير واع بما حدث في صنعاء حتى استدعائه من الرئيس عبد الكريم قاسم الذي أخبره بنهاية نظام الإمامة وإعلان الجمهورية العربية اليمنية وتعيينه وزيرا للخارجية. طار العيني إلى القاهرة وقابل الرئيس جمال عبد الناصر ثم ذهب إلى صنعاء الذي صدمه فيها الوضع المرتبك لقادة الثورة وافتقارهم لرؤية لمستقبل حكم اليمن. كانت أول مهامه خارج اليمن حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي طريقه قابل الرئيس جمال عبد الناصر وأخبره بما لمسه من ارتباك.نقده عبد الناصر عشرة ألف دولار لإنفاقها في نيويورك على العلاقات العامة ولتسهيل عضوية اليمن الجمهوري في الأمم المتحدة. تحقق الهدف في 19 ديسمبر بعد اعتراف الولايات المتحدة بالجمهورية العربية اليمنية برغم المعارضة القوية للمملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة. وقع العيني حينذاك ضحية الفوضى في اليمن وفقد منصبه كوزير للخارجية في نوفمبر 1962 وعين أول سفير في الولايات المتحدة في فبراير 1963. خلال مهامه الدبلوماسية كان يشعر بأن من حقه أن يعبر عن مواقفه الخاصة حتى لو لم تكن متناغمة مع سياسات الحكومة.على سبيل المثال لم يكن راضٍ عن الحل العسكري للحرب الأهلية في الستينيات ولكنه آثر عدم الإعلان عن مناصرته حينها لقضية السلام والمصالحة.وعن الموضوع الحساس المتصل بالعلاقات بين اليمن ومصر( الجمهورية العربية المتحدة )، ساند الفريق الذي كان يريد تقييد دور مصر في العون العسكري وحده. وبرغم أن بعض جوانب السياسة المصرية في اليمن كانت تقلقه فقد ظل حتى وفاته مقدرا دور مصر الذي بدونه كانت هزيمة الجمهورية حتمية. لاحظتُ عندما شاركت في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1980 أنه يضع صورة الرئيس جمال عبد الناصر عبد الناصر على مكتبه عندما كان سفيرا في نيويورك مما دفعني لسؤاله وأنا أعي أن ماكان بين البعث وبين عبد الناصر ماصنع الحداد وكان رده هو ماسبق عن تثمينه للدور المصري في بقاء الجمهورية وامتنانه لإدراك عبد الناصر لدور العلاقات العامة في الأمم المتحدة ومنحه إياه عشرة ألف دولار عام 1962.
العيني رئيسا للوزراء:
عين العيني وزيرا للخارجية في حكومة أحمدمحمدنعمان عام 1966، ولكن مصر حجبت الثقة عن تلك الوزارة لأنها شملت بعثيين. حدثت بين النعمان والعيني وعبد الناصر نقاشات غاضبة وحاول النعمان إقناعه بعدم وجود وزراء بعثيين في الحكومة ولكن بدون جدوى. قال ناصر بصراحة " أن المتهم بالبعثية هنا وأنه لايستطيع الدفاع عن نفسه".كان يشير إلى العيني. وينسب إلى عبد الناصر عبارة شهيرة قيلت في الاجتماع " يانعمان لاتستطيع إقناعي نثرا ولاشعرا". غادر العيني الذي ترك حزب البعث عام 1962، إلى سوريا بينما سجن النعمان المُعترض عليه وعلى بعض وزرائه في القاهرة من يونيو 1966 إلى اغسطس 1967. في 5 نوفمبر 1967، أطيح بالرئيس عبد الله السلال في انقلاب غير دموي وعين العيني رئيسا للوزراء لأول مرة ولكنه لم يشغل المنصب إلا أسبوعين، للحاجة سنتذاك إلى رئيس وزراء بخبرة عسكرية ليقود الدفاع عن صنعاء التي كانت تحت حصار القوات الملكية التي هددت وجود الجمهورية ذاتها.عين العيني رئيسا للوزراء مرة أخرى عام 1970، في وقت كانت مواردالدولة ضئيلة وفي نفس الوقت كان على الحكومة أن تقوم بإصلاحات اقتصادية وسياسية طال انتظارها وأن تقيم لأول مرة في تاريخ اليمن دولة النظام والقانون وكان العيني رائد الدعوة لها. كان التزام العيني لايتزعزع وكان متفانيا في عمله ، وقد شارك وهو رئيسا للوزراء في تنظيف شارع في صنعاء. المعارضة المحافظة بقيادة الإخوان المسلمين سدت الطرق في وجه إصلاحاته. هذه القوى نفسها أفشلت مبادرته التاريخية لتنظيم زراعة واستهلاك القات ومنع زراعته في أراضي الدولة والأوقاف. الشيخ عبد الله حسين الأحمر عبر عن أسفه فيما بعد على موقفه الذي عارض فيه مبادرته بعد استفحال المشكلة. حقق العيني في رئاسته للحكومة تلك إنجازات مهمة منها المصالحة بين الجمهوريين والملكيين في جدة في مارس عام 1970 والاعتراف السعودي بالجمهورية في يوليو 1970 واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والولايات المتحدة عام 1972، ولكن هذا أدى إلى أن تسير الجمهورية العربية اليمنية في فلك السعودية كأمر واقع. مكن ضعف اليمن وهشاشتها وافتقارها للموارد الرياض من التدخل في شؤون اليمن بمنح أو منع مساعدتها المالية للحكومة وبواسطة "اللجنة الخاصة" لليمن تمكنت السعودية من الدعم العلني للقوى المحافظة التي رسخت بالتدريج
هيمنتها على الجمهورية.
الحرب والوحدة بين الشمال والجنوب:
كان العيني رئيسا للوزراء في سبتمبر 1972 عندما خاضت الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حربا حدودية خاطفة أنهاها تدخل دبلوماسي للجامعة العربية برغم اعتراضات السعودية. في محادثات السلام بين العيني وبين نظيره الجنوبي علي ناصر محمد كانا هما المفاوضات الرسميان في العلن لكن العمل الحقيقي كان يتم في الفندق الذي كان يقيم فيه الوفدان، بمشاركة عبد الفتاح إسماعيل الأمين العام للجبهة القومية أكثر السياسيين الجنوبيين نفوذا. اتفق القادة الثلاثة على أن أي من شطري اليمن لن يتمتع بالاستقرار طالما ظلا منقسمين. ومع ذلك قوبل اتفاق الوحدة في اكتوبر 1972 بمعارضة من قبل النخب القبلية والمحافظة في الجمهورية العربية اليمنية ومن قبل العديد من الجنوبيين الذين فروا إلى الشمال بعد الاستقلال. العيني لم يتبن علنا تشكيل أحزاب سياسية ولكنه كان مقتنعا بأنه من المستحيل تحقيق الوحدة بين اليمنين بدون إيديولوجية مشتركة وتنظيم سياسي مهما كان إسمه. وفي مواجهة معارضي الوحدة قال في محاضرة في نادي الخريجين بصنعاء " عام 1972 "لايوجد محمد في صنعاء ولا ماركس في عدن".
نصت اتفاقية القاهرة على عقد قمة في نوفمبر1972 بين الرئيسين اليمنيين، عبدالرحمن الإرياني وسالم ربيع علي في طرابلس. صادق الرئيسان في طرابلس على اتفاقية القاهرة لكن المصادقة أذنت بنهاية حكومة العيني بسبب المعارضة للاتفاقية. مرة أخرى يعين العيني سفيرا وهذا ما دفع الرئيس الإرياني 1967- 1974- لأن يقول في مذكراته بأن العيني كان شغوفا بأمرين أن يكون رئيسا للوزراء أو العيش خارج اليمن. في يونيو عام 1974 وهو سفير في لندن تمت الإطاحة بنظام الإرياني من قبل تحالف مشيخي وعسكري بقيادة العقيد إبراهيم الحمدي. كان الشيخ سنان أبو لحوم وثلاثة ضباط من أسرته أعمدة الانقلاب، وقيل بأن غايتهم النهائية كانت وضع العيني محل الحمدي بمساعدة العراق.أصبح العيني رئيسا للوزراء فيما سمي ب " حركة 13 يونيو التصحيحية "، ولكن شهر العسل مع الحمدي كان قصيرا وأجبر العيني في يناير 1975 على الاستقاله.
بغداد وصدام حسين:
قبل العيني دعوة ليقيم في بغداد بشرط وضعه هو وهو ابتعاده عن العمل السياسي. برغم ذلك كما أخبرني في منزله بالقاهرة فقد دعاه الرئيس صدام حسين لحضور اجتماع لقيادة حزب البعث، قطر اليمن. نوقش في ذلك الاجتماع القيام بانقلاب ضد الرئيس علي عبد الله صالح الذي استولى على السلطةعام 1978. طمأنت قيادة البعث اليمني المشاركين بأن كل الظروف لصالح نجاح الانقلاب. عندما طلب صدام من العيني أن يبدي رأيه عبر عن المخاطر الجسيمة التي ستنتج عن الانقلاب وتأثيره السلبي على العراق ذاته سياسيا واقتصاديا، مذكرا بتجربة مصر المرّة في ستينيات القرن الماضي في اليمن لأن السعودية لن تقبل مثل هذا التدخل فيما تعتبرها "حديقتها الخلفية"وأنها ستدافع بشراسة عن مصالحها في اليمن وعن حلفائها القبليين. أجل صدام قرار الموافقة لمزيد من النقاش.بعد أيام قليلة اتصل صدام بالعيني ليخبره بأن الرفاق يتجولون الآن في لندن.
الدبلوماسية:
عين صالح العيني عقب اتفاق الوحدة في عدن عام 1989 بين اليمنين سفيرا في المانيا ثم عينه في نفس المنصب الذي شغله قبل ثلاثة عشر عاما كسفير في الولايات المتحدة. خاض السفير العيني بمفرده معركة شرسة وواجه ضغوطا قوية في واشنطن لإجبار اليمن على السماح بتهجير
مواطنيها اليهود إلى إسرائيل. قابلته في واشنطن في يونيو 1989 أثناء زيارة عمل لي إلى امريكا وسمعت شكواه من قلة تعاون صنعاء معه حول هذا الموضوع.طلب مني أن أثير مع مسؤلي وزارة الخارجية مطالبه المتكررة والملحة بتعيين دبلوماسيين أكفاء وتوفير موارد مناسبة لمساعدته على مواجهة اللوبي والإعلام الصهيوني. ناقشت الأمر مع وكيل وزارة الخارجية عند عودتي ولخيبة أملي تجاهل الرد حول مطالب العيني وأخبرني بأن وزارة الإعلام أنتجت فيلما عن حياة اليهود اليمنيين وأرسلته إلى عمّان ليبث من قناته التلفزيونية، وأوضح أن فكرة إنتاج الفيلم بنيت على فرضية أنه بمجرد مشاهدة الفيلم في إسرائيل فإن اليهود اليمنيين سيُغبطوا على الحياة المزدهرة التي يعيشونها. غير أنه ،وطبقا للوكيل، فإن الأردنيين توقعوا نتائج عكسية للفيلم
لأنهم صدموا للحياة البائسة التي يحياها اليهود اليمنيين ،التي لم تكن في الواقع تختلف عن حياة معظم اليمنيين في ظل نظام صالح وكانت نصيحة الأردنيين بأنه ليس من المصلحة اليمنية عرض الفيلم في التليفزيون الأردني.
السنوات الأخيرة:
أنهى العيني مهمته الدبلوماسية في واشنطن عام 1997 وقضى معظم سنوات الأخيرة في مصر. عندما شن السعوديون عاصفة الحزم في 26 مارس 2015 كان معارضا لها وطالب بنهاية الحرب وبالمصالحة الوطنية وأكد على الحاجة لإنشاء مجلس رئاسي من كل أطراف الصراع اليمنية بدون استثناء.العيني مع آخرين بذل في بيئة صعبة كل مايستطيعه لتحديث اليمن ولم يستسلم واستمر في كفاحه حتى في مذكراته.
توفي العيني في 25 اغسطس 2021 في القاهرة لإصابته بفيرَس كوفيد 19 ودفن في مسقط رأسه في الحمامي مخلفا زوجته وإبنتين وولدين.
*ترجمة لمقال الكاتب للمجلة السنوية للجمعية البريطانية اليمنية BYSJ العدد 2023- 2024.