صنعاء 19C امطار خفيفة

تحيا الجمهو... تحيا عزة

منذ مدة وأنا لا أستطيع التركيز على أي شيء يخصني بالتالي كتابة قصيدة، ولا أعلم حقًا متى بدأ هذا!

متى صارت كتابة القصائد فعلًا تنمويًا بالنسبة لي، إشعار بالحضور، وتعبه اللذيذ الناتج عن عملية دفع لتأطير ما قد يطالني.. لطالما كنت حرة زئبقية بعيدة حتى عن متناول يدي.

أتذكر الجديلة الطويلة المرتبة، والثياب النظيفة والمشية المدروسة لي عندما كنت صغيرة.. كل ذلك يسخر مني الآن بينما أرتعش.. كعادتي.
منذ مدة، والهواء حولي أكثر حضورًا.. منذ مدة وأنا أفكر في اليمن "التراب"، واليمن "الدولة".
لا أريد أن أحب شيئًا، هكذا قررت بعد أن كنت قد قررت في العام الماضي أن أحب أكبر قدر من الأشياء في حالة من التصالح الساذجة مع كل التشوه الحاصل فيَّ وحولي وفي كل مكان، حالة من الشبع عن أي شيء إن صح التعبير إذ كنت بطريقة ما مازلت أكتب الكثير من القصائد وأحب الشاورما والبيتزا بالنقانق ولا أشتري سوى البلوفرات الواسعة والجينز رغم تحفظ الناس، وأحب أصدقائي وأشعر أنهم رهاني الرابح.
إنه سبتمبر إذن، هذه المرة جاء أكثر حضورًا مما كان عليه في مراته السابقة.
يحاول الجميع أن يحتفل بهذه المناسبة، لكني أعلم أن أحدًا لا يحتفل، هم فقط يجددون عهدًا بصون دماء الثوار ويحيون الأمل بالقضاء على الحكم الإمامي في اليمن.. الحكم.. الإمامي في اليمن!
سخرية سخرية سخرية
لو كان هناك متنور ما لجعلته يدرس الأمر من زاوية نفسية فلسفية.. كيف رجعنا! لا بد أن في الأمر عقدة نفسية.
ربما يرشدنا لنصلي صلاة سادسة أو يخبرنا عن خطأ ما في الوضوء أو يضع يده على عضو متسخ يحتاج أن نغسله أيضًا خمس مرات في اليوم.
أو ربما يخبرنا أن نكسر نابًا فينا أو نزهق جوعًا أو نكشف ظلًا.
لكنني الآن أكتفي بنفسي متنورة.. وإن كنت أبحث عن أية خلطة لها مفعول الريسين على الجسد.. جسدي.
أعلم أنه قد يكون موجودًا لدى رجال المخابرات، لكن للأسف دائرة علاقاتي ضيقة.
في هذه الأيام، وبينما يعيد الجميع إحياء الأمل بالقضاء على الدولة الإمامية، عرفتُ أنا الثلايا مرة أخرى.. لقد كنت أعرفه قديمًا، أعرف اسمه فقط وما فعل دون أن أتورط نفسيًا في الأمر.. لكنني اليوم عرفته مرة أخرى.. ولست بصدد الحديث عن أمنيتي بأني لم أعرفه ولا أمنيتي بأني عرفته.. إذ إنني لا أتمنى شيئًا سوى الريسين في هذه الأيام.
أنا لا أشبه الثلايا، لست بتلك الشجاعة التي تجعلني أحارب لأجل شيء لم يخلق بعد، لست مثله مؤمنة بأني أستطيع القضاء على قبيلة من الوحوش الحديدية وتحطيم السلسلة التي تقيد رحمًا أؤمن أنه سيلد الحياة.. دون أن أدخله!
مسكين ذلك الثلايا لو أنه فقط عرف الريسين ربما كان ليكون له رأي آخر.. ولصار مثلي، مثل ما أتمنى
"جريمة على الشاطئ.. بلا وجه ولا ذاكرة، لكن لا، لا مجال للمقارنة.. لا مجال للمقارنة.
اليوم، وبينما يمجد الجميع الثلايا، فكرت فيه.. هذا الثلايا الذي أمر بقتله حيوان ما يدعى أحمد يحيى حميد الدين.. هو أيضًا كنت أعرف اسمه منذ زمن، دون أن أتورط نفسيًا في الأمر، ودون أن أشتم هذه الشتيمة الناقصة...
عليّ أيضًا أن أشتم الشعب المسحور المقبح على لسان الثلايا قبل إعدامه.
لو أنه فقط يصحو من قبره لأخبرته أن... هل سأخبره أن الثورة غير مجدية...؟ بالطبع لا.
هل أخبره أن الرحم الذي آمنت أن بداخله حياة.. كان فارغًا..؟ هذا إجحاف، وأنا قطعًا لست بمجحفة.
بعد قليل من التفكير أظن أنني سأقول له إن الأمر معك كان أقل كلفة نفسية مما هو مع غيرك.. وكم كان جيدًا أن قبحت أولئك الموتى.. وكنت سأخبره عن الريسين وكيف أن من الحكمة أنه لم يعرفه، إذ لن يكون الأمر خاطفًا ومدويًا في الآن ذاته كما هو بالسيف.
لم أقرأ لنيتشه من قبل، لكن حسين البرغوثي فعل، وكتب في سيرته الذاتية أن نيتشه ذاك قال إنه من المبتذل أن يكون المرء ابن والديه، وكان حسين يرى أنه ابن الجبل أو الإسكندر المقدوني.. أنا الآن أفكر لو أنني بنت حسين أو الثلايا ذاك.. لكن كلهم رحلوا مبكرًا.
"أنا جريمة على الشاطئ
بلا وجه ولا ذاكرة"
أفكر متى كتبت هذه القصيدة وبم كنت أشعر، لم يكن الثلايا جريمة على الشاطئ.. لقد كان جريمة على التراب.. اليمن "التراب" ومرتكبها كان اليمن "الدولة".
بعد قليل من التفكير، ربما ليس من الصائب أن أكون بنت الثلايا.. عزة قد تكون مناسبة أكثر مني.
لا أحد يعرف عزة.. حتى عزة نفسها.. وأنا لا أقول إني أعرفها، حاشاني.. أنا فقط أفكر هل كان يجب أن أشعل ثورة ما لأجلها.
عزة تخيفني.. يا الله كم تخيفني. تذكرتها حين كنت أفكر في أن أحمد يحيى حميد الدين لم يكن ليستطيع قتل الثلايا لولا أن أيده شعب مقبح مسحور آنذاك.. قبل أن يولد شعب آخر أكثر إيمانًا بالحياة.. رهان الثلايا الرابح. أفكر الآن باسمها كما اسمي.. اسم عزة بفتح العين ليس له دخل بمعاني العزة والغلبة والشرف، بل هو أرق، أرق.. إن العزة هي بنت الظبية.
عزة تلك الطفلة الضئيلة الشاحبة، بيضاء لكن شاحبة، وشعرها يميل للشقرة. رأيتها مرة واحدة فقط في حياتي، ضئيلة جدًا، يدها التي تقرع الباب كانت كأنها صورة مكبرة ليد الجنين حين تبدأ في التشكل. أصابعها كأعواد الكبريت، لقد كانت رقيقة شفافة وسهلة التهشم.. كيف احتملت عزة جرجرة والدها لها بالسيارة!
أقول لكم أعرفها، عمرها ربما 15 أو 16 عامًا.. قصيرة نحيلة عظام وجهها بارزة، ومتأكدة من أن بطنها ليس سوى تجويف فارغ.
كيف لم تمت عزة حين ربطها والدها بحبل وجرها بالسيارة..؟ بل كيف لم تمت حين اغتصبها ابن خالتها وصديقه بعده وثالث آخر "ابن طبيب"؟
كيف احتملت تلك العزة قسوة كتلك.. هي أصغر من أن تدركها أصلًا..؟
حين رأيتها أول مرة كانت تقرع الباب.. بابنا، عيناها صغيرتان لامعتان، حين فتحت الباب شعرت بأني أقف أمام حمامة بيضاء صغيرة وضعيفة ملتحفة بريش غراب، وحين أمعنت النظر في عينيها شعرت بأنني أقف أمام سماء صغيرة في الليل، عيناها الظاهرتان من فتحة النقاب كانتا كنجمتين وسط سماء سوداء.
عزة صغيرة جدًا صغيرة، وخجولة، كل ما في الأمر أن أحدهم رمى لها أملًا بحياة جميلة والتقطته... شريرًا تجاوز الثلاثين، لم يكن يرى فيها عزة.. إنما لحمًا طريًا يستطيع التهامه على حد تعبيره.. لكن عزة لم يكن فيها أي لحم.. لقد كانت نحيلة، أقول لكم رأيتها أمام بابنا!
كانت تفرك يدها الصغيرة وعيناها الضيقتان ضاقتا أكثر بعد ابتسامتها المحرجة والمتوترة حين رأتني..
هكذا من شبيهات عزة، قلوبهن في أعينهن.. كل النساء حولنا كن في يوم ما كعزة قبل أن يتحجرن ويتوحشن ويصبحن مقبحات مسحورات كالشعب الذي ساعد بعماه وجهله أحمد حميد الدين في قتل الثلايا.. كان لهن يومًا عيون لامعة كالنجوم وسط السماء.
ما الذي كانت تراه عزة حين فتحت لها الباب؟ أي وجه لي كانت تراه..؟ الوجه الذي يتشكل حين يكون شعري مربوطًا، أم الذي يتشكل حين يكون حرًا مفرودًا.. أم الذي يبدو في الصور..؟ هي بالتأكيد لم ترَ فتاة متمردة تحتها الكثير من الخطوط الحمراء.. فتاة خطرة لأنها قررت أن تختلف.
هل تتذكر عزة شكلي أم أنها مثلي لا تستطيع؟
طيب.. هل تستطيع تذكر شكلها أم أنها أيضًا مثلي لا تستطيع.
تساؤلات لن يستطيع أحد الإجابة عليها سوى عزة نفسها والتي تزوجت من غريب ما أتى من بلاد أخرى. بيدوفيلي، آمل أن يكون طيبًا كفاية حتى يعلمها القراءة والكتابة، ويقول لها إنها إنسان.. بعد كل شيء..
تستحق أن تشعر أنها إنسان.. حتى ونحن لا نستطيع تفنيد هذا الشيء، لكنه أفضل مما هو دون الشيء الذي تكونه المرأة هنا.
إنسان.. أنا بكل الخطوط الحمراء الموضوعة تحتي إنسان الثلايا إنسان عزة إنسان، ابن خالتها إنسان صديقه انسان، أحمد حميد الدين إنسان.. هل يوجد أمر أكثر صعوبة من استيعاب هذا؟
نعم.. الحصول على الريسين هنا أكثر صعوبة من أي شيء على الإطلاق. أصعب حتى من إفهام أحمق ما أنني يمنية، ولست "قنوبية" كما قال حين رأى وقوفي عند الثلايا، وأنني حتى وإن لم أكن يمنية فلن أكون "قنوبية" بكل الأحوال بل "ينوبية".
ما الذي منعني من إشعال ثورة لأجل عزة؟ ما الذي منعني من أن أقول إن للمرأة حقًا بأن تحيا هنا إن أخطأت..؟ هل منعني الخوف من الموت؟
لكنني أريد الريسين فعلًا، وأفكر ببذور التفاح كبديل أرخص وإن كان الآخر غير متاح أيضًا...
هل أخاف الله الذي لم يمتني بعد! لماذا لم يمتني الله بعد..؟ لست الثلايا، ولا أرغب بأن أكون ابنته.. لم أرغب سوى بأن أكون "فتاة تبقى فتاة.. لا تصير وحشًا أو مرضًا أو أرق".
هذا المقطع من قصيدة كتبتها وسرقها ضياء، لا أحد يعرف ضياء، كما لا أحد يعرف عزة، نستطيع تعريف ضياء بأنه رجل أحب قصيدة ما، فسرقها، وقال إنه كتبها بيراع قلمه.. لقد كان الأمر بهذه السهولة، حتى وهو جريمة تم بهذه السهولة، لم لا يكون الاعتراف بإنسانية امرأة أو فتاة بهذه السهولة...؟
على ثورة سبتمر هذه أن تستمر، وعلينا أن نمجد الثلايا، ونقبح الشعب المسحور الذي يجهل أن له حقوقًا.. على الثورة ألا تموت.. حتى لا تنطفئ النجوم.. حتى لا تموت القصص.

الكلمات الدلالية