فجر السادس والعشرين من سبتمبر (من ذاكرة الأبطال إلى ضمير الوطن)

صورة تاريخية تجمع قادة ثورة٢٦ سبتمبر
الإهداء:
إلى أحد أبطال ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، اللواء أحمد قرحش، مدّ الله في عمره، وأطال في ظله، وإلى كل أولئك الرجال الذين صنعوا التاريخ، فأناروا فجر الجمهورية، ورفعوا اليمن من كهف العزلة إلى رحاب الحلم.
بعد يومين تحل علينا الذكرى الثالثة والستون لثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة، وبهذه المناسبة العزيزة على قلب كل يمني حر سبتمبري أكتوبري جمهوري، أجد نفسي مدفوعًا بواجب الوفاء والاعتراف بتضحيات الأبطال من الضباط الأحرار، وأن من الواجب علي أن أستدعي اللحظات الأولى التي انبثقت فيها شمس الجمهورية من رحم ليل طويل من الظلم والاستبداد، مستعينًا بما خطّه بعض الضباط الأحرار من مذكرات، وبما سمعته مشافهة من أبطال تلك المرحلة الفاصلة في تاريخ اليمن، أولئك الذين حملوا أرواحهم على الأكف، وتقدّموا ليصنعوا حدثًا لا ينساه التاريخ، لأنه لم يُصنع على الورق، بل خُطّ بالدم، والعزيمة، والإيمان بوطن يستحق الحياة.
كانت صنعاء في مساء يوم 25 سبتمبر 1962، تموج بالتوتّر غير المعلن، هدير القلوب لم يكن أقل من هدير الدبابات التي كانت تتأهب في الخفاء. كان هناك شيء ما في الهواء؛ شعور دفين بأن حدثًا جللًا على وشك أن يقع. فقد قرر الضباط الأحرار، بعد نقاشات مطوّلة وترددٍ طبيعي في مثل تلك اللحظات الحاسمة، أن لحظة الانقضاض على النظام الإمامي قد حانت. كانت القيادة الثورية تضم نقيبًا وخمسة ملازمين أول، من أبرزهم الملازم البطل علي عبدالمغني، الذي أصبح اسمه لاحقًا قرينًا للثورة ذاتها، والملازم محمد مطهر زيد، الذي ظل لصيقًا بالقائد حتى لحظة استشهاده، والمهندس عبداللطيف ضيف الله، وصالح الأشول، وأحمد الرحومي، وعلي قاسم المؤيد، إلى جانب المقدم عبدالله جزيلان الذي كان أول من أصدر التوجيهات العسكرية بتنفيذ التحرك الميداني.
أُقرّت ساعة الصفر، وبدأت التحركات العسكرية في وقت متأخر من ليلة الثلاثاء. عُقد اجتماع مهم في مقر الكلية الحربية حضره أعضاء التنظيم، إلى جانب عدد من الضباط الذين لم يكونوا منتمين للتنظيم بعد، كما حضره بعض أبناء المشايخ الذين كانوا متواجدين في صنعاء لمبايعة الإمام الجديد البدر بن أحمد، بعد وفاة والده الإمام أحمد بيومين. كان الحضور محتشدًا، وكانت العيون تترقّب، والقلوب تدق بإيقاع متسارع. ألقى الملازم صالح الأشول كلمة توجيهية مؤثرة، أعلن فيها أن ساعة العمل قد حلّت، وأنه لم يعد هناك وقت للتردد، فإما النصر أو الشهادة، إما أن تخرج اليمن من ظلام القرون، أو تظل حبيسة وهم الإمامة إلى أمد غير معلوم.
بعد الكلمة القصيرة، بدأت عملية توزيع المهام؛ كانت الدقة في التخطيط لا تقل عن شجاعة التنفيذ. تكفّل البطل القائد السبتمبري الملازم أول محمد مطهر زيد ورفاقه بنقل ذخائر الدبابات عبر ممرات خفية من مستودعات الكلية الحربية إلى مواقع تمركزها عند دار البشائر، حيث كان يقيم الإمام البدر الذي تلقب بالإمام المنصور، ولحساسية العملية، تم نقل الذخائر من خلال فتحات أدخنة المطابخ بما كان يعرف بـ"السيات"، حفاظًا على سرية التحرك، وهو تفصيل ترويه الذاكرة كعلامة على عبقرية التنفيذ وجرأة المخاطرة، وكان الضباط يسيرون في الظلام بحذر شديد، وكل خطوة كانت محسوبة؛ فالسقوط في تلك اللحظة لا يعني فقط فشل الثورة، بل تصفية الضباط المشاركين، وربما تصفية فكرة الجمهورية من أساسها.
في حوالي الساعة الحادية عشرة مساء، بدأت الدبابات تتحرك في اتجاه دار البشائر. ست دبابات كانت القوة الأساسية، ثم انضمت إليها دبابة سابعة بقيادة الملازم عبدالكريم المنصور، قادمة من موقع بئر خيران، لتكمل التشكيل الهجومي على قصر الحكم. حين اقتربت أولى الدبابات من سور دار البشائر، استشعر الحرس الملكي الخطر، فأغلقوا البوابة، ودفعوا بمصفحة من الداخل لإحكام الإغلاق. لم يتردد الملازم محمد الشراعي، فتقدّم بدبابته لاقتحام السور، لكنّ السور انهار عليه، واندلعت النيران بعد أن صبّ أحد حراس الإمام البدر البنزين على الدبابة، وأشعل فيها النار. استشهد الشراعي ورفيقاه، ولم يفتّ ذلك في عضد المهاجمين، بل زادهم إصرارًا.
في هذه الأثناء كانت التحركات تتم على عدة محاور: باتجاه قصر السلاح، ودار الوصول، ومبنى الإذاعة، وجولة الشراعي، ومنطقة العرضي، ومدفعية الطبشية. قوة بقيادة الملازم علي قاسم المؤيد سيطرت على مبنى الإذاعة، بمساعدة رفاقه، بعد مقاومة خفيفة من بعض الجنود، لكن الحسم تم بفضل دور الأستاذ عبدالوهاب جحاف الذي أقنع الحرس بالتعاون مع الثورة، وقد كان برفقة الشاعر والمناضل الكبير عبدالعزيز المقالح. أما المدفعية، فقد تكفّل بها الملازم محمد مطهر زيد ورفاقه، فنزعوا إبر النار من المدافع في جربة المدافع خلف قصر السلاح، وأعادوا توجيه المدافع نحو دار البشائر، لمنع أي تعزيزات إمامية قادمة من العرضي.
مع اقتراب الفجر، كانت أغلب الأهداف تحت سيطرة الثوار. ظل القصف على دار البشائر مستمرًا حتى توقفت المقاومة، وفرّ الإمام البدر متخفيًا، بعد أن أرسل رسالة يتنازل فيها عن الحكم للضباط، على أن تُجنَّب البلاد الحرب. لكن الرد جاء حازمًا من المقدم عبدالله جزيلان: "لقد تأخرت، الآن ليس وقت المفاوضات". وربما كان في ذلك الرد ما يفتح جدلًا تاريخيًا طويلًا حول إمكانية تجنّب الحرب التي امتدت ست سنوات، لكنّ المؤكد أن الخوف من الانتكاسة في لحظة النصر، كان كافيًا لاتخاذ القرار بالمضي في التنفيذ حتى آخر مدى.
وهكذا، ومع خيوط الفجر الأولى ليوم الخميس السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، كان الضباط الأحرار قد أنجزوا المهمة. أُعلن قيام الجمهورية العربية اليمنية، وانتهى حكم استمر قرونًا. سالت الدماء، وارتفعت الأرواح، لكن في المقابل، انطلقت اليمن من القيد إلى الأفق.
تلك اللحظات الأولى لم تكن لحظات بطولة عابرة، بل لحظات فاصلة في حياة أمة. لم يكن فيها استعراضٌ ولا شعارات، بل فعلٌ صافٍ، إرادةُ تحرير، يقينٌ بعدالة الموقف، وإيمانٌ بأن هذا الشعب يستحق أن يُحكم بكرامة لا بعصا، وأن يعيش لا أن يُستهلك، وأن يكون له رأي في من يحكمه، لا أن يُفرض عليه الإمام كما يُفرض الضباب على الجبل.
واليوم، ونحن نحتفي بالذكرى الثالثة والستين، نذكّر أنفسنا وأجيالنا بأن ثورة سبتمبر لم تكن لحظة وانتهت، بل مشروعًا وطنيًا طويل النفس، لايزال يستكمل أركانه، ويكافح من أجل ترسيخ أهدافه الستة: التحرر من الاستبداد والاستعمار، بناء جيش وطني، العدالة الاجتماعية، التعليم للجميع، النهوض الاقتصادي، والحكم الرشيد.
وليس في هذا التذكير مجرّد ترف أو نوستالجيا، بل دعوة لتجديد العهد مع أولئك الأبطال من الضباط الأحرار الذين فجّروا الثورة، وسال عرقهم ودمهم ليمنحونا فرصة البداية، وأذكر من بقي منهم حيًا كأخي وصديقي اللواء أحمد قرحش، واللواء حمود بيدر، واللواء أحمد الناصر، واللواء عز الدين المؤذن، وغيرهم ممن يستحقون أن تروى سيرتهم في الكتب، وأن تُوضع صورهم في مدارس الأجيال القادمة.
أما الشهداء، فهم الخالدون في ذاكرة الوطن؛ لا يُذكر يوم سبتمبر إلا ويُذكر معه الشهيد علي عبدالمغني، ومحمد مطهر زيد، ومحمد الشراعي، وعبدالكريم الأمير، وقاسم الأمير، وغيرهم من الضباط والجنود والرجال البسطاء الذين اختاروا أن يكونوا في الصف الأول، حيث يتحدد مصير الوطن.
ولتكن الذكرى الثالثة والستون محطة لإعادة قراءة تلك اللحظات، لا بوصفها ماضيًا بعيدًا، بل روحًا يجب أن تبقى متقدة، تلهم كل ساعٍ للحرية، وكل مؤمن بوطن لا يليق به إلا الكرام.