من الثورة إلى التشويه: التاريخ يشيطن أبطاله(5-6)
لم يكن نشوان الحميري ابن زمنه فقط، بل ابن كل الأزمنة التي ترفض أن تُساق إلى الحظيرة دون سؤال.. رجل من معدنٍ صلد، كأنما خرج من قلب جبلٍ يمني، يطلّ على الدنيا بعينين تريان أبعد من حدود القبيلة وأوسع من ضيق الفقهاء.. كان شاعرًا يتكئ على نسبه كما يتكئ نسر على ذروة جبل، لكن تكبّره لم يكن تكبّر الأنساب، بل تكبّر الفكرة، تكبّر العقل حين يرفض الانحناء لما لا يراه حقًا.
وُلد في زمنٍ كان الهواء فيه ملبّدًا بفتاوى لا تنتهي، تُقسّم الناس إلى طبقات، وتوزّع الجنة والنار كما توزّع الغنائم.. غير أنّ نشوان اختار أن يفتح نافذة تخصه، نافذة يطلّ منها على هذا الركام الفكري ليهزّه بعصا النقد.
لم يكتفِ بأن يكون شاعرًا يطرب الناس بالقوافي، بل كان موسوعيًّا، فقيهًا، مؤرخًا، ومجادلًا لا يكلّ ولا يملّ. عاش حياته كما يعيش لاعب السيرك على الحبل المشدود.. خطوة نحو الشعر، وأخرى نحو الفقه، وثالثة نحو التاريخ، وفي كل خطوة كان يثير حفيظة أولئك الذين لا يحبّون أن تهتز الأرض من تحت أقدامهم.
من يقرأ كتابه الموسوعي "شمس العلوم"، يدرك أن نشوان لم يكتب ليملأ مكتبات الأئمة، ولا ليحظى برضاهم، بل كتبه كبيان استقلال فكري، كصرخة تقول: "اليمني قادر أن يكتب قاموسه بنفسه، دون وصاية من قريش، ولا من وصيّ مزعوم من السماء". كان الكتاب معجمًا لغويًّا، نعم، لكنه كان أيضًا بيانًا سياسيًّا ينسف فكرة "الحق الإلهي" التي حوّلها الأئمة إلى بطاقة دخول على عقول اليمنيين.
لقد وضع نشوان إصبعه على الجرح.. لا وصيّة لأحد على أحد، ولا توقيع من السماء يمنح سلالة حقّ الحكم الأبدي. كانت معركته مع الهادوية معركة على السردية، على من يكتب تاريخ اليمن، ومن يملك الحق في تعريف هويته. خصومه لم يتحملوا صوتًا يعلن أن اليمن يمكن أن يُقرأ خارج خطبة الجمعة، فكتبوا ضده كما يكتب موظف ديوان تقريرًا أمنيًا عن مثقف مشاغب. اتهموه بالزندقة، بالكبر، بالهوى، لكنه ظلّ شوكة في حلقهم.
شعره لم يكن ترفًا أدبيًا ولا مدائح قبائلية، بل كان بيان مقاومة، قنابل بلاغية يرميها في وجه "القرشي فوق واليمني تحت".. كل بيت كان طلقة، وكل قصيدة كانت معركة صغيرة. لم يكن يكتب ليمدح ماضي سبأ وحمير فحسب، بل ليذكّر الناس بأن الماضي هذا ليس تراثًا للتغنّي، بل حجة سياسية في وجه من يريدون إعادة اليمن إلى قفص الطاعة.
ولأن التاريخ غالبًا ما يُكتب بمداد المنتصرين، فقد حاولت كتب الأئمة أن ترسم له صورة "المارق"، حتى يبدو في الذاكرة اليمنية نزوة عابرة. لكن الذاكرة الجمعية -مثل الأرض- تحفظ آثار أقدام من مرّوا فوقها، ولو بعد حين.. ها هو نشوان مايزال حاضرًا، صوته يتردّد في كتب التراث، بينما خصومه صاروا مجرد أسماء باهتة في هوامش المخطوطات.
نشوان الحميري، إذن، ليس مجرد شاعر ولا موسوعي، بل مشروع مقاومة فكرية، محاولة لاستعادة اليمن من يد "المقدس المسلح". كان يكتب ليعيد الاعتبار لليمن كأمة، كهوية، كحقيقة لا تختصرها عمامة ولا توقّعها فتوى.. كان حفرة في الطريق الذي ظنّ الأئمة أنه مستقيم إلى الأبد، حفرة كلما حاولوا ردمها عادت لتذكّرهم بأن الطريق ليس لهم وحدهم.
إنه الوجه الآخر لليمن.. اليمن الذي يرفع رأسه كلما حاولت سلالة أن تضعه تحت قدميها. وكأن التاريخ يقول لنا: في كل عصر سيخرج نشوان جديد، شاعرًا كان أو مفكرًا أو حتى مغرّدًا على جدارٍ رقمي، ليعيد رسم الخطوط، ويكتب على الجدران أن اليمن لا يقبل أن يكون مزرعة لأحد.