صنعاء 19C امطار خفيفة

عودة

عودة
لم أكن أنوي السفر،
لكن شيئًا ما في داخلي ظل يُلحّ عليّ،
كأن ذاكرةً قديمة تناديني بصوتٍ خافت، لا يُسمع إلا في لحظات الصمت.
قرية "حارات"… اسمها وحده يثير ارتباكًا غريبًا،
كأنني أعرفها دون أن أتذكرها.
فقد نسيت قرية والدتي،
زرتها صغيرًا، بصحبة جدي رحمه الله،
كان يمسك بيدي كمن يُسلّم ذاكرتي للريح.
لا أذكر منها شيئًا: لا شجرة، لا رائحة،
بقايا دارٍ لم تكتمل ملامحه،
كأنها حلمٌ مرّ بي وأنا نائم،
ثم استيقظت منه قبل أن أراه كاملًا.
الآن، بعد كل هذه السنوات، قررت أن أعود.
لا بحثًا عن مكان، بل عن ظلٍ قديم في داخلي،
عن شيء طُمِس في الذاكرة، لكنه لم يمت.
انطلقت من مدينة إب نحو الحوبان، دون تخطيط.
لم أحمل شيئًا يُذكر،
فقد نويت ألا أمكث طويلًا.
استوقفت سيارة تمضي على مهل،
كأنها تعرف أنني لا أستعجل شيئًا.
جلست في المقعد الخلفي، متعبًا من أرق ليلة السفر كعادتي،
ولم أكن أعرف إن كنت ذاهبًا إلى مكان، أم إلى زمنٍ مضى.
الطريق كان صامتًا،
السائق لا يسأل، وأنا لا أتكلم على غير عادتي.
شعرت بشيء يتحرك في داخلي،
لا أعرف له اسمًا،
ولا أُدرك كنهه تمامًا،
لكنه كان يرافقني...
وصلت الحوبان.
كوب قهوة من بوفية صغيرة،
لا طعم مميز، ولا رائحة تُذكر،
لكنني شربته ببطء،
كأنني أُمهد لشيء لا أعرفه.
جلست للحظة، أراقب حركة الناس،
لا أحد يعرفني،
وجوهٌ تمضي، وأنا أنظر إليها دون رغبة في أن تُبادلني النظرة.
وفي أثناء جلوسي هناك، وسط ضوضاء لا تعنيني،
تواصلت مع قريبٍ لي، عزيزٍ على القلب.
أخبرته بنيّتي، بوجهتي التي لم أُعلنها لغيره.
صمت قليلًا، ثم قال بصوتٍ خافت، كأنما يخشى أن يُفسد شيئًا في داخلي:
"في ظل الأوضاع... لا تسافر".
لم يُلح، ولم يُفسّر،
لكن شيئًا في نبرته جعلني أتراجع،
كأنني فقدت لحظة كانت ستعيد ترتيب كل شيء.
فقررت العودة.
لكن السؤال ظل يهمس في داخلي: لماذا لم تسافر؟
وفيما أنا غارق بصمتي،
رأيت في ما يرى النائم...
أنني وصلت للقرية بعد الظهر،
والشمس تميل قليلًا نحو المغيب،
الطريق الترابي يضيق شيئًا فشيئًا،
رائحة التراب الندي، ممزوجة بدخان يتصاعد من صعد المنازل المتواضعة،
استقبلتني قبل أن يستقبلني أحد.
مررت بجانب شجرة سدر ضخمة،
لا أدري إن كانت هي نفسها التي مررت بها صغيرًا،
لكن شيئًا في هيئتها، في ظلها، في سكون وقفتها، في داخلي،
يقول لي: "لستِ غريبة عني".
أسمع صوت امرأة سمراء تنادي طفلها، وبنتها على صدرها،
وصوت دجاجة تهرب من مطاردة، وأصوات فراخها تضفي على المكان حياة.
وجوهٌ محلّقة تنظر إليّ، لا أعرفها، ولا تعرفني.
اقتربت من بيتٍ شبه مهجور،
بابه الخشبي مائل، من دورين،
أظنه دار جدي، دار النجد.
كان في زمنه يُشار إليه،
ما مثله من دار؟
تخيّلت جدي بثوبه الأبيض،
وعمامته الكشميرية الصفراء،
ومن تحتها كوفيته البيضاء.
يدخل من الباب في زمنٍ مضيء،
يحمل الحلاوة البيضاء التي كان يجلبها من المخاء،
وبيده الأخرى عصاه،
يدخل البيت بصوته الجهوري وهو يصيح:
"شلي ما لفلف!".
ابتسمت ابتسامة صغيرة،
وتذكرت يوم رحيله،
فقد عدت يومها من هروبي...
السماء كانت رمادية،
الشارع أمام البيت بدا أضيق مما كان عليه، كأن الزمن نفسه انكمش.
وقفت عند أول الدرج الضيقة،
حقيبتي بيدي، ووجهي متسخ من الطريق الطويل.
لم أكن أعرف إن كان سيرحب بي، أم أُعاتب على مغامرتي الصغيرة.
رائحة بخور خفيفة، ممزوجة برائحة دموع.
صعدت الدرج، خطوة بخطوة، كأن كل درجة تحمل ثقل مغامرتي.
رجلي تؤلمني، لكنني لا أتوقف.
في الأعلى، وقفت أمي، فقد وصلها الخبر بعودتي.
وجهها شاحب، وعيناها متورمتان من البكاء.
نظرت إليّ، لم تصرخ، لم تعاتب، لم تسأل أين كنت.
فقط فتحت ذراعيها، واحتوتني كما لو أنني لم أغب يومًا.
لم أتكلم، فقط دفنت وجهي في حضنها، نبكي معًا،
وبين ذراعيها، شعرت أنني لم أعد كما كنت، كأني وُلدت من جديد.
سمعت من الداخل صوت النسوة:
"لقد عاد... لقد عاد...".
أفقت على صوت النادل:
"أين الحساب يا أستاذ؟".
فقلت متلبكًا:
لقد عدت... لقد عدت.

الكلمات الدلالية