صنعاء 19C امطار خفيفة

افتهان المشهري دمٌ يكتب بوصلة تعز الجديدة

لم يعد السادس والعشرون من سبتمبر مجرد ذكرى سنوية تمرّ على اليمنيين بروتين قاتل. هذا العام خرجت تعز بروح مختلفة، وكأنها تستعيد وهج الثورة الأولى، لكنها هذه المرة لم تُستدعَ من بطون كتب التاريخ، بل على أرض الواقع المؤلم، ومن دماء سالت على قارعة الطريق.

دماء افتهان المشهري، مديرة صندوق النظافة، التي تحولت من موظفة عامة تؤدي واجبها بشجاعة، إلى أيقونة شعبية ورمز لمرحلة كاملة من الوجع والغضب.
لم تكن افتهان سياسيًا بارزًا، ولا زعيمة حزب، ولا حاملة نوبل من أروقة مدن نيويورك، أو بمنصب متنطع بجانب السلطة، لكنها كانت امرأة صريحة ترفض الفساد، وتتحدث علنًا عن مواقع الخلل في التغيير الذي أحدثته.
ذلك الصوت الذي اعتبره كثيرون عاديًا، أصبح في لحظة فارقة صوتًا مزعجًا للمتورطين، فانتهى بها الأمر شهيدة اغتيال غادر.
ولم تكن ثلاثون رصاصة كافية لاختراق جسدٍ صلب كالجبل، جسد افتهان الذي قاوم حتى آخر لحظة بإصرار امرأة أرادت أن تولد من دمها ملامح وطن جديد، بل كانت رسالة أراد منفذوها أن تبقى تعز خاضعة للجرائم والفوضى، وصامتة أمام القتلة.
لكن الرد جاء معاكسًا تمامًا، دم افتهان فجّر غضبًا غير مسبوق، وأخرج الناس إلى الشوارع، ليعلنوا أن السكوت انتهى.
المسيرات التي أعقبت اغتيالها لم تكن جنازة باهتة أو مشهدًا عاطفيًا فقط. كانت صرخة سياسية وقانونية تحمل بين طياتها برنامجًا للتغيير.
لم يطالب الناس بالثأر الفردي، بل رفعوا شعارات العدالة الشاملة. نُطقت مصطلحات نادرًا ما يتبناها الشارع: الإفلات من العقاب، المسؤولية الجنائية الفردية والجماعية، مساءلة القيادات الأمنية، استقلال القضاء، تفكيك شبكات الفساد. هذه اللغة لم تأتِ اعتباطًا، بل من وعي شعبي راكمته سنوات طويلة من الخيبات، حتى صارت الناس تدرك أن العدالة ليست هتافًا، بل منظومة تبدأ من القانون وتنتهي بمحاسبة كل متورط صغيرًا كان أم كبيرًا.
تعز التي كانت مهد الحركة الوطنية في اليمن، تقف اليوم أمام مفترق خطير. فإما أن تواصل الانحدار نحو الظلام الذي صنعته القيادات الأمنية المتواطئة والسلطة المحلية العاجزة، وإما أن تنهض من جديد لتستعيد دورها التاريخي.
دم افتهان لم يُسكِت المدينة، بل أعاد إليها روح سبتمبر الأولى. الثورة التي كسرت قيود الإمامة في الماضي، تُستعاد اليوم ضد منظومة فساد وتواطؤ وغياب شامل للأمن.
صور افتهان التي ارتفعت في الساحات بين الأعلام واللافتات، لم تكن مجرد تعبير عن الحزن، بل إعادة تعريف للشهادة في الوعي الجمعي.
لم تعد مجرد موظفة اغتيلت، بل صارت رمزًا لمعركة شعبية معقدة، معركة ضد الخوف وضد الصمت وضد ثقافة الطمس.
لقد حاول القتلة أن يطووا صفحتها سريعًا، لكنهم فتحوا كتابًا جديدًا من الغضب الشعبي، كتابًا يرفض أن يُغلق قبل أن تُكتب فيه كلمة العدالة.
المسيرات التي اجتاحت شوارع تعز، لم تكن تذكيرًا بالماضي وحسب، بل كانت إعلاناً لمستقبل مختلف. مستقبل يرفع فيه الناس مطلب التغيير الجذري في الأجهزة الأمنية، ويصرخون بمحاسبة المحافظ على فشله، ويطالبون بتحقيقات شفافة تُعرض أمام الرأي العام، وتعيد ثقة المواطن بالقانون.
هذه ليست شعارات حزبية، ولا هتافات مؤقتة، بل برنامج شعبي شامل لمدينة سئمت أن تتحول إلى مسرح للاغتيالات والجرائم غير المعاقبة.
افتهان لم تترك خلفها صمتًا، بل شرارة تتقد. روحها مازالت تحلّق بين الحشود، تصرخ معهم، وتذكّرهم بأن الوطن لن يعود إلا بالعدالة الحقيقية.
ما جرى لم يكن مأتمًا ينتهي، بل بداية وعي جديد، وزخم شعبي يعيد بوصلة تعز نحو طريقها الصحيح.
إن دمها لم يُسفك سدى، بل صار مدادًا يكتب فصلًا جديدًا في كتاب المدينة، فصلًا يقول بوضوح إن الشعب لن يرضى بعد اليوم أن يعيش تحت رحمة القتلة، وأن العدالة ليست ترفًا، بل حقّ مقدس لا يُساوَم عليه.

الكلمات الدلالية