عن العجز في زمن الحروب
في مطار مسقط.
أنهيت رحلة بحثية. أجر حقيبة سفر صغيرة، مرهقة.
صيف بحثي، اخذني إلى مصر، اليمن، بريطانيا، الإمارات، ثم عمان. من اجل كتاب، هو الجزء الثاني من مشروع بحثي بدأته عام 2020، عن الأدوار الإقليمية في حرب اليمن.
مرهقة.
بالطبع مرهقة.
كانت رحلات بحثية مكثفة، تخللها مؤتمران، وتعلمت في كل هذا الكثير. لم يبق بعد جمع المعلومات وتحليلها سوى الكتابة. ومعها إدراك إن حرب اليمن ستطول.
وقفت أمام البوابة.
بوابة رقم أ 2. ستأخذني طائرتها إلى أبو ظبي ومنها إلى سويسرا.
لم أرد الدخول.
ليس بعد.
جلست خارجها. اخترت مكانا قصياً. وحدي.
أختنق. اشعر بالاختناق. غصة. غصة حارقة تخنقني..
وحزن.
حزن عاجز. صامت.
يالله كيف نصمت؟
ووجدتني انحني على ركبتي. اضع يدي على رأسي. واحسست بالدموع تتدحرج على خدي.
كأن خبر اغتيال إفتهان المشهري في وضح النهار في تعز، اليمنية التي تفانت في خدمة مدينتها، ليقتلها انفلات أمنى معجون بالفساد، كأن الخبر قد جعل الكأس تفيض.
ذلك الإحساس ان العالم جن جنونه.
رئيس نرجسي في البيت الأبيض ينخر في مؤسسات الولايات المتحدة. يقوض القانون الدولي ومؤسساته. والعالم يدخل في نظام دولي جديد. الأقوى يكرس بعضلاته امر واقع.
ودول تريد أن تسبق إلى الفضاء، وأخرى تمشي متمهلة، وغيرها تكاد تنداح من اهترائها.
حروب من حولنا. كثيرة.
حرائق تشتعل، كأن العالم جن جنون.
وغزة.
ذلك العجز، العجز مما يحدث فيها.
من قتل. من ترويع. من تجويع. ومن تهجير عرقي. وحكومة إسرائيلية يمنية متطرفة، جن جنونها هي الأخرى. لم تعد هناك خطوط حمراء. تريد تصفية أية إمكانية لحل الدولتين، وأكثر.
نسمع كل يوم. نرى كل يوم. ونشعر بالقهر كل يوم.
وفي كل مكان ذهبت إليه، كان هناك غضب، الكل غاضب..
وفي كل مكان ذهبت إليه، كان هناك إحساس بالعجز. الكل عاجز..
وأنا صامتة. من جديد.
تذكرت كلماتي، كتبتها بعد ثلاثة أيام من السابع من أكتوبر، 2023.
في مقال بعنوان "عن الصمت في ضجيج التهليل".
هل تذكرون ما قلته؟
-------
«تحولت (أي السابع من أكتوبر) إلى لحظة يشبهونها بالحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، وسيدفع الفلسطينيون والفلسطينيات في غزة ثمنها لعقود قادمة.
حق الفلسطينيين والفلسطينيات في تقرير مصيرهم/ن، في بناء دولتهم، لن تحققه حماس.
هي تغرف من وعاء نعرف مضمونه.
(...)
وأنا أنتظر.
أنتظر الوجوم الذي سيحط على الرؤوس ونحن نعد جثث أمواتنا.
كم جثة، كم قتيل، كم حلم تدمر؟
أنتظر، لأن الوجوم قادم.
أنتظر، وأنا أقول كما قلت في كل مرة:
"أخشى أيها المهلل الفرح أن الطريق الذي اخترته لن يوصلك إلى القدس. سيوصلك إلى الجحيم لا محالة."
وحنظله لا زال يدير لكم ظهره.»
------
تذكرت تلك الكلمات.
تذوقت مرارتها.
اختنقت بها.
أختنق. اشعر بالاختناق. غصة. غصة حارقة تخنقني..
وحزن.
حزن عاجز. صامت.
يالله كيف نصمت؟
رأسي بين يدي، أمام البوابة A2.
والدموع تنساب على خدي.
وأشعر بالعجز.
كم جثة، كم قتيل، كم حلم تدمر؟
ونحن؟
نسمع كل يوم. نرى كل يوم. ونشعر بالعجز كل يوم.