صنعاء 19C امطار خفيفة

هِشام واستعارتهُ اللونيَّة

هِشَام محمد شَابٌ مُبدِع. يَكتبُ القِصَّةَ بِدمِ القصِيدة الحَدِيثَة. يَمزُجُ رُوحَ القَصِيدة بِجَسدِ القِصَّة، وَيُكَوِّنُ مِنهُمَا نَصًّا لا أجمَلَ وَلا أروَع!

تَتوَحَّد في نَصِّهِ القِصَّة والقصِيدة؛ فَتقرأ فِي القِصَّة قَصِيدة، وَقَصِيدةً في القِصَّة؛ مُكَوِّنًا مِنهُمَا لَونًا جَديدًا؛ وَهُوَ مَا يسمِّيهِ الأديب الرَّاحِل زَين السقَّاف «الأقصُودَة».
أُقصُودَة هِشَام مُغَايرة وَمُختَلِفة. إنَّها إبداعٌ مُغايِر وَمُتميِّز. التَّمَازُج بَينَ الّلونَين مِن الإبداع بمهارة مُتقنَة حَدَّ الإدهاش.
لُغَة لونية، وتراكيب، واستعارات غَاية في الجِدَّة والحَدَاثة، وَخَيال عَمِيق شَاسِع يَمتَلكُ القُدرَة على زَرع الحَياة والإحِسَاس في كُلِّ مِا تَلمِسهُ ذَائِقتهُ الرائعة الرَّهافة.
هاشم محمد
يُهدِي مَجموعته المُعَنوَنَة «استعارة لونيّة» إلى رُوحِ الأستاذ محمد يحيى علوان؛ وهي صادرة عن «الأمانة العامة لجائزة رئيس الجمهورية للشَّباب».
تشتمل المجموعة على 67 قِصَّة قَصِيرة. وَهُنَاك قِصصٌ يَسمُو فِيهَا النَّفَس الشِّعري؛ فَتقتربُ أكثر من القصيدة الأكثر جِدَّةً وحداثة كاصطلاح أستاذنا الشاعر والناقد الدكتور عبدالعزيز المقالح.
وهناك قصص يَغلبُ عليها طَابِع القَصّ مُوشَّاةً بالشِّعريّة. وَلونٌ ثَالث؛ وهو الأبرز: القَصّ المتمازج حَدَّ التوحد والتماهي بين الشعري، والسَّردي (الأقصودة).
وَأحيانًا يتداخل الشعري والسردي في تَمَاوج؛ لكأنَّهما نَصٌّ لا يميز فيه ما هو شعري، عَمَّا هُو قَصّ.
وأحيانًا يَتوزع النصُّ مَقطعُ قَص يَعقبهُ شِعر.. وهكذا، أو العكس.
1
"لم أجد نفسي في بَادئ الأمر بأنِّي سَأكونُ عَلى مَوعِد يُوثِّق حَالاتِ قَلبِي، وقلمي الخَجُولين.
نَسِيتُ دَمِي على شُرفَةِ الزَّمَن، واجتزتُ المسافات حَافِيًا أحمل رُوحِي هَديةً تعرش فيها همساتي، وَيُكللها الشوقُ المَطِير، وأغدقتُ عَليهَا سَمَائي، وحَمَّلتُهَا أنفاسي البَاكية.
المقطع الأول سَردٌ قصصي مُطرَّز بالمجاز بأنواعه: «الموعد المُوثَّق»، و«حالات القلب»، و«خجل القلم». فالمجاز والاستعارة بَلاغة تُوَشِّي السَّرد.
أمَّا المقطع الثاني: فـ«نِسيانُ الدَّم»، و«اجتياز مسافات الزمن حَافيًا يَحِمل رُوحَه»، و«جعل الروح هدية»، و«تعريش الرُّوح بِالهَمَسَات»، «مُكلَّلَة بِالشَّوقِ المَاطِر»، و«بُكاء الأنسام» = كُلُّهَا صُوَرٌ بلاغية. فالمقطع شِعريٌّ مِنْ ألفهِ إلى يَائهِ.
المقطع شِعري حَدَاثِي، والاستعارة اللونِيّة كُلُّهَا نَصٌّ إبداعي يَتميَّز بِالقُدرة على صِياغةِ السَّردِ بأحدثِ الصُّوَر الشِّعريّة، وتحويل الشِّعرية إلى سَرد، وَمزجِهمَا في نصٍّ أنيقٍ جَميلٍ ورائع.
مَوهِبة هِشَام تَتَجلَّى في امتلاك خَيَالٍ عَبقَري وَخِصب لَهُ قُدرَة على مَنحِ الجَمَاد إحسَاسًا رَفِيعًا، ويخلق في المَوَات رُوحًا وَحَياةً تُحِبُّ وتَرضَى وَتَسعَى، وترتدي قِيَمَ الجَمَال، وَسُموّ الأخَلاق.
"تُحَدِّق بالأفق الذي بدأت تنفرج شَفتاهُ عن بَسمةِ العِشق، وَمَا هِي إلا لحظات، وتكون قد أَطلَّت مِنْ خِدرِ أمِّهَا، وَتُطوقكَ بابتسامتها الدافئة؛ فَتهمسُ لها بِتهيُّج تَارةً، وَتُنشدُهَا الشِّعرَ تَارةً أخرى، وفي كل مرة تَزدادُ تألقًا وبَهاءً؛ يزيد هيامك".
مِنْ قِصتهِ «هكذا نَسيتُ دمي» تتسامى النَّثريَّة إلى شِعريَّة يتوارى فيها السَّرد القَصَصي مِن العُنوان إلى آخر مقطع..
10
«لَيسَ بَيننَا مسافة»، و«كُنَّا نعيش على وجيبِ قَلبٍ واحد»، و«مَازلنَا جَسَدًا وَقَلبًا وَاحِدًا»، و«شُعاعًا يتدفق»، و«أفقتُ من حَالتي»، «فِيمَا رَأيتُ نَفسِي ألوذُ مُلتصِقًا بأهدابها»، و«أومَأت بِرأسِهَا»، و«أطرقتُ مُبتسمًا»، و«اجتزنا حَاجِزَ الصَّمت».
لا يِشبِهُ نَصُّ هشام نَصَّ رَابِعَة العَدويَّة. فذلكم حَبٌّ إلهي، وهذا تَوحُّد بشري؛ فترتوي منها حتى الثُّمَالة.
هذا العاشق المُتَوحِّد بِالكون يُحَوِّلُ الأفقَ إلى فاتنةٍ تَفتحُ شَفتيها المُفعَمَة بِبَسمةِ العِشق، وَتُطَوِّقُهُ بحرارةِ دِفئِها؛ فَيتهيَّج وَيُنشِدُها.
يَزدادُ الأفُقَ (العشيقة) تَألُّقًا وَبَهاءً؛ فيزداد العاشقُ هشام محمد هُيَامًا، ويرتوي منها حتى الثُّمَالة. تَحوِيل الأفق إلى مَعشوقَة، وَمُطارَحَتها الغَرامَ والسُّكرَ حَتَّى الثُمَالة والألق والبهاء.
للشاعر والسارد هشام خَيالٌ خِصب يوصله إلى اللامُنتَهَي (الإبداع).
قِصتُّهُ (قصيدته) نَثريّةُ شِعرٍ حديث، يندغم فيها السَّرد، ولا يَكادُ يبين. أمَّا قَصيدتهُ (القصة) كقصة كاريكاتور، فَقَصٌّ رائع مسرودٌ بمفرداتٍ شاعرة، لكن القَصّ حَاضرٌ وَمختومٌ بنكتة (لقطة ظريفة)؛ «باب الإدارة مفتوح».
يُلحُّ المُدرِّس أمامَ البنات، والبنطلون مَقطوع من الخلف. وربما كان -أعوذ بالله- لا يلبس كَلَسُونًا. تَصفعهُ كركرات الطالبات؛ فيصيح: «قِلَّة حَيَاء». تحاصره وَخزَات هَمسَاتِهنَّ التي تتحول إلى قهقهات تُردِّدُ صَداهَا الكَراسِي.
تَمدُّ لَهُ إحدَاهُنَّ بِورقة يضعها جَانبًا؛ فتصرخ فيه برجولة: يا دكتوورر!
يتغلب على ارتعاش ركبتيهِ: إيش في؟!
فيصرخنَ بِصوتٍ واحدٍ: "باب الإدارة مفتوح". وباب الإدارة مفتوح تُقالُ لمن سِروالهُ مفتوحٌ من الأمام، أو المقطوعُ من جِهَة المؤخرة.
في قصة «الأقصودة» ذِكرَى، يَسردُ بشاعريةٍ رائعة الغَوصَ في الغَزَلِ المَكتُوم، أو بالأحرى التَّجربَة الجِنسيَّة..
"انزلقتُ مِنْ أمَامهنَّ كَقطرة ضَوء". وغموض الرمز لا يُخفِي البُعد.
"وَأيديهِنَّ تَمتدُّ إليك بأوراق تشتهي التوقيع".
والرمز بالتمسح بالجسد المثخنِ بِهِنَّ كأخطاء عابرة في القصة، إشاراتٌ لها بُعد خَفِي.
"وقفتْ منك على بُعْدِ نَفَسٍ مُنهَك، وبسذاجتك القروية ذَهبَتْ يَدُكَ تَمتدُّ إليها سَهوًا تطلبُ وَرَقتهَا؛ لتنامَ على فَخذِهَا كَذكرى".
السَّذَاجة القرويَّة هنا ليست سَذاجة. وتوقيع الورقة رمزيته تنفي البراءة، وتنفي السَّذاجة. رجولتها المتفجرة الوجه الذي بعثرته الشهقات إلى جوفها، وتَرَاقُص الجسدِ المرتعش.
"تَهدُّل الجُدران، وأنت تتهاوى أمام قدميك عندما كانت تَفتحُ لكَ صَدرَهَا؛ لِتُدوِّنَ لَهَا ذِكرَى عابرة على ا. ن ف. ر. ا. د = تعبيرٌ راقٍ عن التجربة.
ألم أقلْ لكم إنَّ هِشامَ سَاردٌ مِن طِرازٍ رَفيع، وَصَاحبُ مَلَكةٍ شِعريّة، وَمَقدِرَةٍ على امتلاكِ مَوهبةِ غُموضِ القَصِيدة التي لا تُسلِّم لكَ نَفسَها إلا بعد عَناءِ القراءة، وَكَدّ الفهم.
هِشام سَاردٌ رائع، وَشَاعرٌ أروع.

الكلمات الدلالية