صنعاء 19C امطار خفيفة

الشَّاعِر محمد اللوزي «وبيدق أسود في يد الجنرال»

الشَّاعِر محمد اللوزي «وبيدق أسود في يد الجنرال»

محمد اللوزي شَاعِرٌ مُبدع. يكتب النَّثريّة «البرقية» بأسلوب شِعري مُغَاير. يمتلك مقدرةً مُدهشةً على التخيل، وعلى براءة الطفولة في صدق الخيال، والاستشراف. فهو من أصوات شعراء الألفية الثالثة.

صدر أول ديوان له: «الشُّبَّاك يهتز.. العنكبوت يبتهج»، عام 2001.
وقد صدر له عدة دواوين أخرى في أزمنة مختلفة: «إجازة جيري»، مركز عبادي للطباعة والنشر، صنعاء، 2208، و«حَبَّة خال في ساق الفراشة»، الدار العربية للعلوم؛ ناشرون، لبنان، ونادي جازان الأدبي 2015، و«قهقهات الفتى الأخرس»، ميارة للنشر والتوزيع، تونس 2018.
وَيبدو أنَّ «بيدق أسود في يد الجنرال» هو آخر إصداراته. العنوان دال، والتصوير دقيق. وقد وقعت الواقعة.
يَضمُّ الديوان الصغير 78 قصيدة. وهي قصائد «برقية».
تتجلى شاعرية الشاب محمد اللوزي في المقدرة على التخيل. وصلة التخيل ببراءة الطفولة قوي.
فهو الوجه المألوف..
"في أول الأرض أو آخرها
 في البحر أو في البر
أو على متن الطائرة
 كُلُّ مَنْ رآني
قال لي: لقد رأيتك من قبل
وأنا لم أرهم قط".
توزيع صورته في العيون، ونشرها في البر والبحر والجو خَيالٌ طفولي خصب ورائع.
خيال الطفولة الرائع والبريء يَعكس عُمقًا خَياليًّا، أو يعبر عن خيال رؤيوي لا يمتلكه إلا أصحاب النفوس السَّويِّة والصادقة.
التفعيلة متنوعة وعديدة، والمفردات منتزعة من التخاطب اليومي. ليس فيها أثر للمجاز أو الاستعارة. وبلاغتها آتية مِمَّا يُسميِّهِ النُّقَّاد «الموسيقى الداخلية»، ويقرؤها الناقد الكبير مصطفى ناصف في:
مَا أجملَ العَيشَ لَو أنَّ الفَتَى حَجَرٌ
تَنبو الحَوادِثُ عَنهُ وَهوَ مَلمُومُ
الشاعر اللوزي محمد يغرس صورته في قلب أهل الأرض فيعرفونه، لكأنَّها صورة الأب آدم الذي خلقه الله على صورته.
ينتقل إلى الحلم في «وجه»
ثَمَّةَ وجه رأيته في أحلامي مِرَارًا
وهو يعبر الشارع
بين مجموعةٍ من المارة
أو هكذا كان
اليوم رأيته في ظهيرتي حقيقة
تفحصت ملامحه.
حاولت أن أوقفه
وأساله من هو
لكنه اختفى سَريعًا
وَتَركَني حَائرًا
ما بين حُلُمٍ ويقظة.
إنَّهَا «أقصودة» تَمامًا؛ كَمَا يسميها الشاعر زين السقاف، وتنطوي على نبوءة الحلم. وهو أفق واسع. فالرسالات العظيمة، والرحلات الأخروية حُلُم. والملاحم الكبرى خيال. وما وصلت إليه اكتشافات العصر كَانَ خَيالًا.
والرؤيا المنامية «نبوءة»، أو جزء منها كما ورد في الحديث الصحيح.
في كتابه «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب»، يتناول الدكتور جابر عصفور النظرة إلى الخيال عند الصوفية. ويهاجم ابن عربي الفقهاء المكتفين بالظاهر، ولا يهتمون بالخيال مع اتساع مجاله.
ويذهب ابن عربي إلى حَدِّ القول بأن "مَنْ لا معرفة له بمرتبة الخيال لا معرفة له جُملةً وَتفصيلًا؛ لأنَّ هذا الركن من المعرفة إذا لم يحصل للعارفين؛ فما عندهم من المعرفة رائحة (ص48، و49) بتصرف.
ويدرس الدكتور جابر عصفور في كتابه المُنوَّه به، «التخيل الشعري»، ويعيب على الفلاسفة عدم الاهتمام بالشاعر؛ باعتباره كائنًا يتميز بقدرات تخيلية فائقة. ولم يتعرضوا للحديث عن ملكة التخيل، أو قدرة هذه الملكة على جمع هذه الأشياء، والتأليف بينها بالقدر الذي كنا نتمناه (المرجع السابق، ص53).
الرؤيا المنامية في قصيدة «وجه» استمرار للوجه المألوف يجسد القول المأثور: "المؤمن يألف ويؤلف". والدلالة الروحية عميقة.
وتكرر الرؤية المنامية لدى الآخر في قصيدة «وجهي خيال».
ربما رآني في أحلامه يَومًا
أو مِرارًا
فَنزلَ مِنْ الحافلة مُسرِعًا
حِينَ لمح وجهي
مُحَاوِلًا اللحاق بي
غير أني تواريت في الزحام
مِثلمَا يتوارى الذين أراهم في أحلامي
جَليٌّ أنَّ المبدع اللوزي يجعل اليقظة صُورةً مِنْ صُور المنام. فالمنام هو الأصل. ألم يقل المتصوفة: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.
لَكانَّ التعارف الحقيقي هو ما يجري في المنام، أمَّا اليقظة فهروب.
الشاعر بارع في الترميز، وتكثيف الصورة، واستخدام المجاز المرسل، والاستعارة بدلالاتهما وأبعادهما.
ويمتلك مَقدرةً على الانتقاد الذكي..
"الملك الكثير
وَالمُطوَّقُ بحراسته الألف، وبالحاشية، والجواري الملونة
يَقف يَوميًّا أمام المرآة. يرى نفسه أكثر من ألف.
كَثيرًا كَانَ الملك، ووحيدين كُنَّا".
فالشعب كله مُضمرٌ في المِلِك، والشعب مُغيَّب، ووحيد.
ويتخذ النَّقدُ بُعْدًا أكبر في قصيدة الملك والشجرة..
"الملك الذي كان يرى الفلاحون صورته في القمر
وفي عظمة الضأن المشوية نَهارَ العِيد
الملك الذي اتهم شجرة بسرقة الجنود، وَقَيَّدَهَا بالسلاسل
ذات خوف ملك بلدتنا.
الذي عجز أن يعزله الشعب
اختفت صورته من القمر،
ومن عظمة لحم الضأن، وهرولة الشجرة
 في شوارع المدينة تغني".
المفردات في القصيدتين، بل في الديوان كله، منتزعة من مفردات التخاطب اليومي، ولكن الصورة الشعرية مركبة، وتحمل أكبر من بعد. فالملك «المطوق» بالآلاف من الحراس، والحاشية والجواري الملونة هو الحاضر، والشعب معزول ووحيد.
أمَّا قصيدة «الملك وشجرة» فمستوحاةٌ من قصة إمام أمرَ بوضع قيود على شجرة في إحدى القُرى يحيط بها الجنود، وإلزام الفلاحين بالنفقة اليومية عليهم.
وَرَمزَ الشاعر بالشجرة إلى حياة الشعب، وإلى الحياة والحرية التي انطلقت تغني في الشوارع بعد عزله.
يتقن الشاعر بمهارة تكثيف الصور، وخصب الخيال، واختيار المفردات المتداولة، وتركيب الجملة ذات الدلالة البعيدة وشديدة الوضوح.
اللَّوزيُّون الثلاثة؛ وهم منسوبون إلى جبل اللوز بخولان الطِّيَال:
حسن أحمد اللوزي، وزير الإعلام الأسبق؛ والذي يُعدُّ مِنْ مؤصلي القصيدة الحديثة (قصيدة التفعيلة في اليمن)، وقد أبَّنَه قريبه محمد أجمل تأبين مُفعَمًا بالحزن.
أمَّا اللوزي الثاني: محمد علي علي اللوزي، فشاعر كبير، وناقد له أكثر من إصدار، وهو أيضًا صحفي متمكن وناشط.
وَثَالثُ الثلاثة: محمد محمد اللوزي؛ وهو التعبير الأكثر جِدَّة عن الحداثة وَرُوح العصر القادم. فخياله الخصب، ومفرداته الحياتية يبشران بميلاد موهبة رائعة وكبيرة وَقَادِمَة من المستقبل.

الكلمات الدلالية