رحيلك أوجعني

لم يدر بخلدي إطلاقًا أن أكون في لحظة ما من لحظات حياتنا اليومية المزدحمة بالمشاغل، أن يهتز كل جسدي اهتزازًا عنيفًا، لأن هذه اللحظات دائمًا ما تكون محملة بمصادفات الأخبار المتنوعة.
وهي مصادفات كثيرة، منها المفرحة، ومنها الحزينة، ولكن في هذه اللحظة كانت المصادفة حزينة للغاية وموجعة للقلب المتوجع مما فيه قبل سماع هذا الخبر الذي ازدادت معه أوجاع القلب أوجاعًا مضاعفة.
وهو خبر صاعق ومفجع ليس لي وحدي، بل إنه سيصاب بوجعه الكثير مثلي لحظة سماعهم له.
إنه خبر رحيل ابن المهرة، الفنان الشاب محمد مشعجل.
محمد الصديق العزيز الذي عرفته عن قرب في ما مضى من وقت جميل في ربوع حاضرة حضرموت مدينة المكلا.
فرقتنا الحياة بمتطلباتها، وكل منا ذهب لحال سبيله. إلا أن حلم اللقاء والتلاقي ما انفك يراودني ولم يبارح تفكيري لحظة.
إذ إني أمني نفسي بلقائه في أية فرصة قادمة ساقتني قدماي لأرض المهرة، أو ساقته قدماه إلينا في حضرموت.
حتى إني في آخر زيارة للغيضة، حرصت كل الحرص على أن ألتقي به، ولكن لم يتم ذلك اللقاء بحكم سرعة عودتي لحضرموت، وبقيت على أمل كبير أن ألتقيه، ولكن قدر الله وما شاء فعل، وهو القادر ونحن المقتدرون، وهو الخالق ونحن العبيد.
محمد مشعجل عليه رحمة الله، كان له الفضل الكبير مع بقية إخوانه من الفنانين والشعراء والملحنين من أبناء المهرة، فهم من نشروا الأغنية المهرية في الفترة الحالية، وكانوا بحق خير من اجتهدوا الجهد الكبير في إظهار الأغنية المهرية.
إلا أن الراحل محمد كان له حضور لافت وشهرة واسعة، بما امتلك من صوت عذب وجميل جعل الكثير من الشعراء والملحنين من المهرة وخارجها يتعاونون معه، وكان إلى وقت قريب يحرص على انتظام تواجده السنوي من خلال أشرطته التي يتم إنزالها في كل عام، ومع موجة وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي التي اجتاحت كل شيء، انقطع انقطاعًا اضطراريًا عن إخراج الأشرطة السنوية، وظل متواصلًا بجديده في هذه الوسائل الإعلامية المتنوعة.
وكمحبين ومتابعين لهذا الفنان، من منا لم يتذكر شيئًا من أغاني هذا الفنان الجميلة والخالدة في الذاكرة لعقود طويلة من الزمن، من مثل: ديرة محبيني، وأشكي القسوة لمن، وخسارة ليش يا خلي، خذني معك يا طير رحل إلى حات، ريم البوادي، الطبيب المعالج، يا ليل يا بدر يا نجمة، الحال يا تمام، ألا يا نسيم الليل، في عتمة الليل ساهر... وقائمة طويلة من الأغاني الجميلة بصوت هذا الراحل الباقي فينا بما خلف من أعمال فنية خالدة.
محمد قبل أن يكون فنانًا كبيرًا، حمل لواء المحافظة على فنون المهرة، ونقلها لأماكن كثيرة باحترافية عالية، وجعل منها حديث الناس في كل مكان.
هو في الأصل إنسان رحيم وطيب المعشر، لا يلاقيك إلا بابتسامته المعتادة، تلك الابتسامة التي تجتذبك من كل حواسك، لأنها نابعة من قلب رجل محب للجميع.
بقي أن نقول عليك الرحمة يا واحدًا من بين القلائل ممن عرفتهم عن قرب، وأعتز بمعرفتك أيما اعتزاز، لأنك تقدر المعرفة وتصون العشرة، وستظل دعواتي متواصلة لك بالرحمة والمغفرة، وأن يجعل الله قبرك روضة من رياض الجنة.