عالم ما بعد الإنسان
ليس بين موضوعات الوقت الراهن ما يثير الجدل كما تفعل أخبار الذكاء الآلي. فالنقاش حوله يتصل مباشرة بمسائل تقع في الصميم من التجربة البشرية: كطبيعة المعرفة ونظريات مصادر وطرائق اكتسابها، طبيعة العقل البشري وميزاته، فرادة وأصالة الحس الإنساني، تاريخ تطور الاجتماع البشري وسمات وملامح الحضارات المتعاقبة، الفرص المتاحة في الحاضر والعقبات القائمة والمخاطر المحتملة، الآفاق الممكنة في الآماد المستقبلية القريبة منها والبعيدة.
لا يُثار الجدل فقط حول هذه المسائل، بل كثيرًا ما تعلو الأصوات الداعية إلى إعادة فحص ومراجعة الاستنتاجات التي كان الاطمئنان إلى صحتها من دعائم عقائد العصر.
غالب الظن أن نظرك قد وقع من قبل على العناوين العريضة التي تشير إلى العوالم المابعدية؛ عالم ما بعد الحداثة، عالم ما بعد الحقبة الاستعمارية، عالم ما بعد الرأسمالية،.. الخ من الكثير من المابعديات التي من المحتمل أن تكون قد أصابتك -مثلي- بالدوار والسأم.
هاك بشارة: ربما ليس عليك أن تحتمل هذيان الكائنات البشرية العجيبة سوى لبضع سنوات قليلة قادمة، قبل أن تنعم -أو تشقى- بالحياة في عالم ما بعد الإنسان، حيث لا مزيد من المابعديات.
يعتقد كثير من ذوي أهم العقول التي أسهمت في تطوير علوم الذكاء الاصطناعي، أننا على بعد سنوات قليلة من عالم يختلف تماما عن كل تاريخ الإنسانية. عالم مختلف لا أحد يستطيع تصور ملامحه أو تخيل دور الإنسان فيه. لا يمكن لاحد توقع شكل هذا العالم، لأسباب كثيرة، لكن أهمها أنه لن يدار بواسطة العقول البشرية وطاقاتها الذهنية المحدودة.
على أن بعض المتخصصين في مجال صناعة الآلات الذكية، وأكثر منهم من غير المتخصصين، مازالوا على ثقة من أن خصوصية التجربة الإنسانية ستظل العامل الحاسم في تقرير مصير العالم، مثلما كان الأمر كذلك منذ أمد بعيد.
يستند أصحاب هذا الموقف إلى عدد من القواعد التقليدية، لا سيما الاقتصادية منها، التي لعبت أدوارًا حاسمة في دفع التجارب الحضارية إلى آفاق ومصائر تجاوز فيها البشريون ما اعترض طريقهم من حواجز ومعوقات، لكنهم ظلوا دائمًا أصحاب اليد العليا بعد كل اختراع مثّل نقلة نوعية، مثلما كانوا قبله، بفضل الملكات الذهنية التي ميزتهم عن سائر الكائنات الحية.
ما تغفله وجهة النظر هذه أننا نتجه نحو عالم لن تجد فيه هذه القواعد التقليدية المساحة التي تجعلها مؤهلة لتفسير الأحداث الجارية فضلًا عن التأثير في مساراتها المستقبلية.
بكلمات أخرى: اللعبة برمتها تغيرت، وليس فقط قواعدها.
امتلك الإنسان الآلة منذ أزمنة شديدة القدم، بحيث لا يمكن حسم مسألة هوية أول آلة عرفها البشر على وجه الدقة. حملت هذه الآلات عن الإنسان أعباء مختلفة، في الجزء الأعظم من الوقت كانت هذه الأعباء في حيز النشاطات البدنية الشاقة. وظل الأمر كذلك إلى وقت قريب. تغيرت الأمور قليلا خلال آخر قرنين من الزمن، على وجه التقريب. إذ بدأت الآلات تتولى مهام ذات طابع حسابي يعكس جزءًا من القدرات الذهنية لصانعيها.
غير أنها لم تمتلك قط أية ملكات ذكية، إذا ما عرفنا الذكاء بأنه القدرة على تخليق استجابات جديدة تواكب ظروف البيئة المحيطة، ولو لم تكن هذه الاستجابات مخزنة مسبقًا.
بهذا المعنى، لم تكن أعلى الأجهزة الحاسوبية كفاءة ذكية، قبل عصر الذكاء الاصطناعي الذي لا يتجاوز عمره عقدين من الزمن. لم تمتلك تلك الأجهزة الحاسوبية أية ملكات ذكية لأنها كانت مبرمجة على كل قرار محتمل. لم تتمتع أبدا بالقدرة على التصرف خارج حدود الإرادة السابقة لصانعها.
مسار البرمجة التقليدي هذا اصطدم بحواجز بدا اختراقها ضربًا من ضروب المستحيل، لأسباب عدة، أبرزها محدودية موارد الطاقة. اعتقد عندها العلماء والباحثون المتخصصون في علوم الحاسب أنه مايزال ينقصهم الكثير لإحراز أي تقدم ذي وزن.
غير أن تحولًا تاريخيًا سيغير مصير التجربة الإنسانية كلها، وليس فقط مسار العلوم الحاسوبية، جاء ليخيب نبوءاتهم.
التحول لم يأتِ من كسر تلك الحواجز، بل من تغيير المسار من البرمجة التقليدية إلى تعلّم الآلة. فكّر أصحاب الاختصاص: بدلًا من نقل الثمرات المعرفية للعمليات الذهنية الخاصة بالدماغ البشري إلى المساحة التخزينية الخاصة بالآلة، لماذا لا يتم نقل هذه العمليات الذهنية والملكات الذكية الخاصة بالدماغ البشري إلى آليات عمل الحواسيب؟ لماذا لا تتعلم الآلة كما تتعلم العقول البشرية وتطور ملكاتها الفذة؟
وبمعرفة التقدم الهائل الذي حققته علوم الطب، وبالخصوص منها مجال المخ والأعصاب، أضحى من الممكن تشريح الدماغ البشري وفهم آلياته التشغيلية بدقة. وهكذا صار شغل علماء الحاسب وجهدهم العلمي متركزًا على مهمة نقل كل التراكم المعرفي للتجربة الإنسانية إلى ذاكرة الآلات، لا لتعيد تنفيذ بعض صور النشاطات الذهنية البشرية، بل لتتعلم من هذه الخبرة الآدمية كما يتعلم الأطفال من آبائهم. لكن الطفل الآدمي، مهما بلغ من النبوغ، فإنه لن يبتعد كثيرًا عن المستوى المعرفي لأقرانه ومجايليه. بينما تتعلم الآلات لتتجاوز حدود طاقاتنا الذهنية بمسافات هائلة. ذلك السبب في أنه لا يمكن لأحد، حتى أكبر علماء المجال نفسه، التنبؤ بالصورة التي سيبدو عليها العالم بعد سنوات قليلة.
هذا التحول العلمي الهائل يعتبره أستاذ التاريخ يوفال نوح التحول الأخطر في تاريخ البشرية. بالنسبة لنوح، السنوات القادمة ستشهد نهاية التجربة الآدمية. أو بعبارة أدق "نهاية هيمنة الإنسان على العالم".
تكاد مسألة نهاية العقل البشري تكون محسومة في أوساط النخب، وما يظل مثار جدل هو مسألة بقاء النوع الإنساني من عدمه. بالنسبة لإيلون ماسك الرجل الأُثرى في العالم وأحد أكبر ممولي مجال صناعة الذكاء الآلي، فإن احتمال نهاية العالم وانقراض النوع الإنساني يتراوح بين 10% و30%.
وهي نسبة ليست بعيدة تماما عن تلك التي يقدمها عالم الذكاء الآلي جيوفري هينتون، أحد الآباء المؤسسين للمجال والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء تقديرًا لإسهاماته في تطوير ذكاء الآلات.
يقسم هينتون، مثل معظم زملائه، مخاطر الذكاء الآلي إلى نوعين رئيسيين:
النوع الأول مرتبط بسوء استخدام تقنيات وأدوات الذكاء الاصطناعي، واستعمالها لتحقيق أهداف مدمرة.
وهي المخاطر التي نشهدها الآن بمختلف أوجهها، من التقنيات الحربية تحديدا في مجال صناعة الطائرات المسيرة المستخدمة بكثرة في الحروب الأخيرة، إلى عمليات التجسس المختلفة، مرورًا بالسيطرة على المحتوى الإعلامي وتغيير وتوجيه سلوك الأفراد والمجتمعات من خلال خوارزميات منصات التواصل.
الممارسات الناتجة عن هذا النوع من المخاطر ستشهد زيادة عنيفة في السنوات القليلة القادمة، لكنها ستنتهي بنهاية التدخل البشري في عمل الآلة الآخذ في التضاؤل شيئًا فشيئًا.
وهو ما يقودنا إلى النوع الثاني من المخاطر، والمتعلق بسيطرة الآلات الذكية على كل مناحي حياتنا وانعدام التدخل البشري، وهو مصير يراه هينتون والعديد من العلماء المتخصصين حتميًا وفات أوان التدخل لمحاولة منعه.
وبرغم أن هينتون وزملاءه يعتقدون أنه لا يمكن إيقاف عملية تطور الذكاء الآلي أو حتى إبطاؤها، لأسباب كثيرة أهمها الصراع بين الشركات التي تتسابق لريادة المجال، وترى أن تخلفها في هذا السباق يعني انهيارها، وليس فقط تراجع قيمة أسهمها، بالإضافة طبعًا إلى الصراع الأمريكي الصيني الذي يلقي بظلال كثيفة على المجال التكنولوجي، رغم انعدام هذه الإمكانية إذن، فإن العلماء مازالوا يعتقدون أنه بالإمكان تقليل تكلفة هذا النوع الثاني من المخاطر من خلال فرض قوانين تلزم الشركات المتخصصة بإجراءات أمان تساعد في ضمان فرص أعلى للحصول على معاملة آمنة من قبل الآلات خارقة الذكاء عندما تتولى شؤون العالم كلية.
مثلًا، يرى هينتون أن أحد الأفكار التي يمكن أن تساعد في تحقيق هذا الهدف هي أن تتم إضافة ما يشبه "غريزة الأمومة" إلى خصائص الآلات لتتولانا بالرعاية والعطف عندما تملك أمر السيطرة والتحكم بكل موارد العالم.
ليس هنالك من يستطيع أن يتوقع بدقة الموعد الذي سنفقد فيه السيطرة لصالح الآلة، غير أن تقديرات مختلفة تتوقعه في حدود 10-20 سنة، والبعض الآخر يعتقد أنه مايزال أمامنا الكثير للوصول إلى هذه النقطة، شيء من قبيل 50-100 سنة، وفريق آخر يرى أنه لا غنى عن الإنسان لا في المدى القريب ولا في أي وقت آخر في المستقبل على الإطلاق.
في هذا الشأن، محمد جودت، مدير تنفيذي سابق في شركة جوجل، وكان من الأشخاص المهمين الذين ساعدوا الشركة في تطوير قطاع الذكاء الآلي لديها، ويعمل الآن في التوعية من مخاطر الذكاء الاصطناعي من خلال الكتب التي ينشرها، والتي تعد من الأعلى مبيعًا في العالم، ومن خلال محاضرات ولقاءات إعلامية مختلفة يجريها، يرى جودت أننا سنرى آثارًا ضخمة نتيجة التطور المتسارع للذكاء الآلي بحدود نهاية عام 2026، حيث تحولات هائلة ستؤدي إلى ديستوبيا عالمية ستستمر من 12 إلى 15 سنة.
غير أنه يتوقع أنه بنهاية هذه المدة، سننتقل إلى عالم يوتوبي بفضل سيطرة الآلات التامة، بالإضافة إلى امتلاكها خبرة طويلة وبلوغها مستوى ذكاء يمكنها من حل أية مشكلة بطريقة فاعلة وآمنة وبدون أي أضرار جانبية.
إذن، يمكن أن نلخص كل ما سبق ونقول في عبارات مختصرة إن مسار تطور الذكاء الآلي لا يمكن تعطيله، وأن الآلات ستتولى في نهاية المطاف السيطرة بدلًا من الإنسان، وهذا المصير حتمي وعلى الأرجح ليس بعيدًا.
لكن ما هو غير محسوم هو مسألة بقاء النوع الإنساني في عالم تحكمه الآلات، وكيف سيبدو شكل هذا البقاء إن تحقق.
يجدر بنا أيضًا أن نتذكر أن مجال الاحتمالات المستقبلية دائمًا أوسع مما نتخيل، وأن قدرتنا على التنبؤ بأيها أقرب إلى التحقق لطالما كانت ضئيلة، وهي الآن أكثر ضآلة من أي وقت مضى. ولربما كان برتراند راسل أدق من وصف الطريقة التي يجب أن نتعامل بها مع النبوءات بشأن المستقبل، حين قال إن ".. كل النبوءات حول مستقبل الجنس البشري يجب أن تؤخذ فقط على اعتبار أنها فرضيات قد تستحق النظر".
وبإنعام النظر في حال العالم الذي نعيش فيه، وبالأخذ في الاعتبار كل ما صارت إليه الآدمية من وحشية، تبلغ ذروتها في غزة، برعاية كاملة من قبل التجربة الإنسانية الأكثر تقدمًا في جوانب عدة، وبتدبر كيف تحولت الجموع البشرية إلى محض أرقام في الحسابات المصرفية ونقرات في عدادات المنصات الرقمية، ربما لا يعود هنالك ما يؤسف على زواله.
أو بكلمات أكثر إيجازًا وإنجازًا للمعنى: "إن نجونا فهي الرحمة، وإن هلكنا فهو العدل"، كما قال يومًا شيخنا عبد ربه التائه.