صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن بين جوع الداخل وامتيازات المسؤولين

منذ سنوات، تُصرف كشوفات "الإعاشة الشهرية" من المال العام بالعملة الصعبة، تحت مسميات متعددة، لأشخاص يقيمون في الخارج.

المستفيدون ليسوا فقط لاجئين، بل أيضًا مسؤولون وأبناء مسؤولين يعيشون في عواصم مختلفة مثل الرياض والقاهرة وأبوظبي وعمان، حيث ينعمون بحياة مريحة بعيدة عن معاناة الداخل.
والأدهى أن القوائم تمتد إلى عواصم أوروبية وأمريكا الشمالية، من بينها كندا والولايات المتحدة. هناك يقيم أشخاص كانوا تقدموا بطلبات لجوء، وحصل بعضهم بالفعل على جنسيات أجنبية، ومع ذلك مازالت أسماؤهم مثبتة في كشوفات المرتبات والإعاشات منذ سنوات طويلة.
في المقابل، يعيش ملايين اليمنيين في الداخل بلا رواتب منذ أكثر من عشر سنوات، من بينهم معلمون وموظفون حكوميون يعتمد عليهم المجتمع في التعليم والخدمات الأساسية.
هذه المفارقة المأساوية تجعل من استمرار صرف هذه المخصصات فضيحة مضاعفة، تكشف حجم الفجوة بين من يحكمون باسم الشرعية، ومن يدفعون الثمن من لقمة عيشهم اليومية.
تشير بيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) إلى أن 82.7٪ من اليمنيين يعيشون في حالة فقر متعدد الأبعاد، أي أكثر من ثمانية من كل عشرة أشخاص. فيما يعاني الفقراء من نحو 38.6٪ من أشكال الحرمان الممكنة.
وتُظهر الأرقام أن الفقر أكثر حدة في الأرياف بنسبة 89.4٪ مقارنة بـ68.9٪ في المدن. كما أشار التقرير إلى أن مستوى المعيشة تدهور لأكثر من 54٪ من السكان، ما يعكس كارثة إنسانية تتفاقم عامًا بعد عام (undp.org, ygcs.center).
إلى جانب ذلك، أوضحت تقارير اليونيسف أن 50٪ من الأسر اليمنية تعيش تحت خط الفقر متعدد الأبعاد، بنسبة حرمان تصل إلى 50.3٪. وهو ما يعني أن نصف سكان البلاد تقريبًا يعانون حرمانًا متداخلًا في الغذاء والصحة والتعليم والخدمات الأساسية.
تقرير الأمم المتحدة الأخير (UNDP، فبراير 2024) شدد على أن الحرب المستمرة منذ 2015، دفعت مؤشرات التنمية البشرية في اليمن إلى الوراء عقودًا من الزمن، وأعادت البلاد إلى مرحلة حرمان شبه شامل من التعليم والصحة والطاقة والمياه، داعيًا إلى استراتيجية وطنية عاجلة لمعالجة الفقر وتحسين وصول السكان إلى الخدمات الأساسية.
في ظل هذا الواقع المأساوي، يظهر الفساد كأحد أبرز العوامل التي تنهب موارد الدولة.
فبدلًا من توجيه المليارات إلى الفقراء والجائعين والمحتاجين، تُصرف هذه الأموال بالعملة الصعبة لأشخاص يقيمون في الخارج بعيدًا عن نيران الحرب. هذا الاستنزاف يُعد خرقًا أخلاقيًا وماليًا صارخًا، ويستدعي مراجعة عاجلة وشاملة لكشوفات المصروفين، بما يضمن وقف العبث وتوجيه الموارد إلى مستحقيها الحقيقيين.
الوحيد القادر على إنهاء هذا العبث هو الرئيس رشاد العليمي، إن أراد، من خلال توجيه رئيس الحكومة بسرعة وقف عمليات الصرف ومراجعة كل القوائم.
لكن من الصعب الاعتقاد أن العليمي سيتخذ أي موقف حيال هذه القضية أو غيرها. فهو ومعظم المسؤولين إن لم يكن جميعهم متورطون في هذا الملف وغيره، عبر تعيين أقاربهم في مناصب مختلفة داخل السفارات والقنصليات.
أغلب هؤلاء لا يعملون أصلًا، والغرض من تعيينهم هو الحصول على رواتب بالعملة الصعبة.
لا توجد في العالم حكومة تصرف ملايين الدولارات شهريًا على أشخاص لا يزاولون أي نشاط يذكر، بينما هي في حالة حرب، وتعجز عن دفع مرتبات موظفيها في الداخل. هذه فضيحة غير مسبوقة، تثبت أن الفساد في بنية الشرعية اليمنية بات أعمق من أن يُدارى أو يُبرر.
كما سبق أن لوحت الولايات المتحدة، عبر تصريحات لوزارتي الخارجية والخزانة، بفرض عقوبات ضد أية ممارسات فساد مرتبطة بالحكومة اليمنية الشرعية.
وأكدت أن استمرار تدفق الأموال إلى غير المستحقين في الخارج، دون رقابة، يقوّض ثقة المانحين، ويضر بسمعة الشرعية دوليًا. وقد شددت واشنطن على أن أي دعم مالي جديد سيبقى مشروطًا بخطوات واضحة وشفافة لمكافحة الفساد وضمان وصول الموارد إلى الشعب اليمني.
إن استمرار صرف الإعاشة الشهرية بالعملة الصعبة لأشخاص في الخارج، بينما ملايين اليمنيين يعانون الجوع والفقر المدقع بلا رواتب ولا خدمات، يمثل فضيحة لا مبرر لها.
والمطلوب اليوم من رئاسة الدولة والحكومة أن تتحركا فورًا لوقف هذا النزيف المالي، وإلغاء هذه الكشوفات العبثية، وتوجيه الأموال نحو الداخل. إذا كانت محاربة الفساد شعارًا حقيقيًا، فإن أول اختبار جاد يبدأ من هنا.

الكلمات الدلالية