صنعاء 19C امطار خفيفة

تاريخ يعيد ذات الخراب

دخل يحيى بن الحسين إلى اليمن ومعه حزمة أفكار تُشبه مغالق أبواب خشنة لا تفتح إلّا بالقوة .. لم يأتِ - من سيُسمّى لاحقاً "الهادي" - واعظاً يوزّع كتيبات دعوية، بل مؤسساً لنسقٍ سياسي لاهوتي يرى الإمامة حقاً مخصوصاً وفرضاً مطلقاً، ويجعل الخروج المسلّح طريقاً وحيداً لتسوية أي خلاف، من النزاع مع الدول القائمة إلى شجار الإخوة داخل البيت الواحد.

نشوان الحميري وهو ابن المكان الذي حفظ ذاكرة ترابه، لم يُداهن حين قال: “ليس باليمن من فرق الزيدية غير الجارودية” أي إن زيدية اليمن عملياً صارت هادوية جارودية .. إمامة محصورة في البطنين، وخروجٌ دائم بوصفه جهاداً مفترض الطاعة.

التشيّع السياسي الأقدم عرف تباينات واسعة قبل أن تُغلفه العباسية بقبعة “النصّ” و“الوراثة” .. داخل الزيدية نفسها ظهرت مدارس أقلّ توتّراً، الصالحية والسليمانية قالتا بالشورى واتساع الإمامة لمن استوفى شروطها من الناس، بينما الجارودية حبستها في نسل الحسنين ورفعت خلافة الشيخين خارج الشرعية .. جاء الهادي فمال حيث تميل الجارودية، ثم رفع ذلك من مرتبة “الراجح” إلى مرتبة “أصل الدين”.

بلغة ماكس فيبر : الهادي مزج شرعية تقليدية (النسب) بـكاريزما دينية (الخروج)، وتجنّب عمداً بناء شرعية عقلانية/قانونية تُقنن انتقال السلطة. النتيجة: سلطة تُستعاد بالسيف كل صباح ودولة تُمسح وتُعاد كتابتها على رُقعة القبيلة كل مساء.

العنف ليس امتداداً للسلطة بل اعترافاً بفقدانها، والنظرية الهادوية جعلت استعادة السلطة تعني دوماً زيادة الجرعة من العنف، وحين تُقفل باب "الشرعية بالنسب" وتترك شباكها للسيف، يتحوّل البلد إلى مزادٍ للدم، يتكاثر الأئمة بتكاثر الظرف ويصحّ وجود أكثر من إمامٍ في الوقت نفسه .. إمامٌ في صنعاء وآخر في شهارة وثالث في جبلة، وكلٌّ منهم يلوّح بالمصحف ويعدُ الجنّة. ابن خلدون كان واقعياً حين وصف الدورة: عصبيّة تؤسس ثم تتناحر ثم تفنى.

الدفاتر ليست بخيلة بالشواهد، صراعات مبكّرة بين أبناء وأحفاد الهادي أنفسهم دمّرت صعدة وخرّبت عمران .. تنازعٌ دامٍ بين شرف الدين وابنه المطهر، ثم بين المطهر وإخوته، نموذجٌ صريح لـ“حرب الورثة” .. انقضاضات على دولٍ يمنية قامت بالحدود الدنيا من الإدارة (الصليحية/الرسولية/الطاهرية) لأنها لم تُوقع عقد السلالة .. أمّا المُطرّفية - أبرز تمرين داخلي على عقلنة الإمامة وتعميمها - فقد نالها ما ينالُ كل إصلاحٍ يعرض القانون بديلاً عن الدم .. تكفير فاستئصال على يد أئمةٍ رأوا في الشورى خيانة لله لا اجتهاداً في السياسة.

سقطت دولة حميد الدين عام 1962، لكن البرنامج الهادوي لم يختفِ، دخل في سباتٍ مؤسساتي ثم عاد بثيابٍ معاصرة .. بعد عقودٍ من التكيّف مع الجمهورية والبيروقراطية، خرجت الحركة الحوثية بوصفها التطبيق الأحدث لثنائية (الإمامة/الخروج) كما تبدّت في “الملازم” ودرس “الولاية” .. شرعية مؤسسة على الاصطفاء العائلي، وذروة سياسية لا تُنال بالاقتراع بل بـ“التمكين” .. التقيّة وفّرت الغطاء المرحلي والسلاح تولّى الباقي.

لا غرابة إذاً أن تتحول الدولة إلى وضع استثناء دائم .. القانون مُعلّق، والسيادة تُعرَّف بقرار الحرب لا بقرار الميزانية، المواطن يصبح تابعاً والمؤسسة خندقاً والإدارة غنيمة. السخرية أنّ نظرية ادّعت حماية “الدين والدنيا”، لم تحفظ من الدنيا إلّا دورتها الدموية، ومن الدين إلا شعارات التعبئة .. أما “الإمامة العامة” كما بشّرت بها مدارس زيدية أُخرى، قُمعت لصالح “الإمامة الخاصة” التي لا تحتاج إلى صناديق اقتراع بل إلى صناديق ذخيرة.

لن يُشفى اليمن بنقض الأسطورة بالأسطورة، بل بتحويل “الإمامة” إلى فصلٍ في متحف الأفكار السياسية، يُقرأ، يُنتقد، ولا يُعاد تشغيله.
وقتها فقط سنضحك سخريةً صافية ونحن نوقّع أبسط المعجزات .. رخصة قيادة دولة تُجدَّد كل أربع سنوات.

الكلمات الدلالية