صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن والشام والحميني اليمني

اليمن والشام  والحميني اليمني
اليمن والشام (منصات)

يعد مَعبَد إمام أهل المدينة في الغناء، وهو أحسن أهل عصره صَوتًا، ومعرفةً بالألحان. أخذَ هذا العلم عن سائب خاثر، وعن نشيط مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعن جميلة مولاة بهز.

وكان أهل عصره يقدمونه على كلِّ مَنْ سِواه، وله قصص كثيرة وشيقة ذكرها صاحب «الأغاني».

فمنها أنه قال عن نفسه: "والله لقد صَنعتُ ألحَانًا لا يقدر شبعان ممتلئ ولا سَقَّاء يحمل قربة على الترنُّم بها، ولقد صَنعتُ ألحانًا لا يقدر المتكئ أن يَترنَّم بها حتى يَقعدَ مُستَوفزًا، ولا القاعد حتى يقوم".

ومعبد هو الذي عناه الشاعر الكبير السيد إبراهيم يحيى جحاف في غنائيته «الشوق أعياني»؛ وهي أبيات موجهة لمحبة إلى حبيب لها تعاتبه فيها، وغناها الحارثي بأدائه المتقن الشجي، وعزفها بالعود عَزفًا منفردًا رائعًا الفنان أحمد فتحي.

وقَالَ عنها الدكتور محمد عبده غانم في «شعر الغناء الصنعاني» إنها: "تُعدُّ مِنْ حيث موسيقى ألفاظها وقافيتها من أجمل القصائد المستعملة في الغناء الصنعاني".

وفيها يذكر مَعبدًا فيقول:

أبكي إذا غَرَّدْ

طَايرْ عَلى الأشْجَارْ

واقُولْ إنْ رَدَّدْ

وبَاحْ بِالأسرَارْ

كَأنَّهُ «مَعْبدْ»

قَدْ حَرَّكَ الأوتَارْ

هَايمْ شَجِيْ عَانِي

لا يَعرفَ السِّلوَانْ

ويذكر صاحب الأغاني عن معبد قال: "أرسل إلي الوليد بن يزيد، فَأشخِصتُ إليه، فبينا أنا يومًا  في بعض حَمَّامَات الشام، إذ دَخلَ عليَّ رَجلٌ له هيبة، ومعه غلمان له، فاطلى، واشتغل به صاحب الحمام عن سائر الناس.

فقلت: لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي؛ لأكوننَّ مِنهُ بمزجر الكلب، فاستدبرته حيث يراني ويسمع مني، ثُمَّ ترنمتُ، فالتفت إلي، وقال للغلمان: قدموا إليه جميع مَا هاهنا، فصار جميع ما كان بين يديه عندي.

قال: ثم سألني أن أسير معه إلى منزله فأجبته، فلم يدع من البر والإكرام شَيئًا إلا فعله، ثُمَّ وَضعَ النبيذ، فجعلت لا آتي بحسن إلا خرجتُ إلى ما هو أحسن منه، وهو لا يرتاح ولا يحفل لِمَا يَرى مني؛ فَلمَّا طالَ عليه أمري؛ قال: يَا غلام، شيخنا شيخنا؛ فَأتِيَ بشيخ؛ فلمَّا رآه هشَّ إليه، فأخذ الشيخ العود، ثُمَّ اندفع يغني:


سَلُّورْ  في القِدْر وَيْلي «عَلُوهْ»

جَاءَ القِطّ أكَلُهْ وَيْلِي «عَلُوهْ»


فجعل صاحب المنزل يصفق ويضرب بِرجلهِ طَربًا وسرورًا...

ثُم ذكر صاحب الأغاني بيتًا آخر غناه هذا الشيخ لا تعلق له بما نحن بصدده. وقال عقبه: "فكاد أن يخرج مِنْ جِلدهِ طَربًا...، وانسللت منهم فانصرفت ولم يعلم بي، فَمَا رأيت مثل ذلك اليوم قط غِناءً أضيعَ، وَلا شَيخًا أجهل".

أقول: ذكر المحقق أنَّ السِّلَّور -على زون سِنَّور-: نوع من أنواع السمك.

وقد ضبط المحقق كلمة: «أكَلَهْ» على هيئتها بالفصحى؛ بفتح اللام وسكون الهاء، ويترجح لي أنَّ ضبطها بحسب المحكية: «أكَلُهْ»؛ بضم اللام وسكون الهاء، على لهجة تعز وإب ووصاب.

وقال المحقق في الطبعة الصادرة عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر؛ شَارحًا كلمة «عَلُوهْ»: "لَعلَّ هذه لهجة شامية إذ ذاك في كلمة عليه".

أقول: جاء نطقها على المحكية اليمنية لأصحاب تعز، (المعافر)، ولهجة إب (الكلاع)، وهي أيضًا لهجة أهل وصاب بحسب ما أخبرني ابن الأخ العزيز محمد جبران.

وهذا الشامي الذي التقاه معبد في الحمام، قد يكون ذا أصول يمنية. والهجرات اليمنية إلى الشام، ومصر، وشمال إفريقيا وغيرها من البلدان والأصقاع البعيدة- قديمة ومذكورة في كتب التواريخ، وتحتاج لدراسات وأبحاث معمقة؛ ومن أشهرها هجرة الغساسنة ملوك الشام إليها.

و في العصور الإسلامية لم تنقطع هجرات اليمنيين إلى الشام ومصر والعراق والأندلس وشرق آسيا وغيرها من حواضر الإسلام.

لقد استاء معبد وشكى ضيعة الغناء لدى مضيفه وجهل شيخه الذي آثره عليه، ولم يعرف أنَّ هذا الشامي- اليمني أصيب بالبرود لأغاني معبد بأشعار أهل الحجاز ولغتهم السائدة  في ذلك الوقت؛ فاستدعى مَنْ أطلق عليه بـ «شيخنا»؛ وهذا يعني بحسب ما نتعارف عليه «صاحب البلاد».

والبيت الذي غناه صاحبنا أو «شيخنا»، ورواه صاحب الأغاني، وإن كان رَكِيكًا، إلا أنَّ محل الشاهد منها هو المهم. أمَّا البيت، فأشبه ما يكون بِـ «القات» المجفف الذي يتناوله المغتربون اليمنيون حين يتركون وطنهم ويتغربون عنه. فمع رداءة هذا القات وفقده لمذاقه وطراوته وجودته، إلا أنَّ أصحابنا اليمنيين يكيفوا ويسلطنوا عليه؛ لأنه يصلهم بوطنهم ويربطهم به.

ولأنَّ اليمني لا يزال يحن لموطنه الأول، فهو  في حال غربته يستظرف ويستلطف أي شيء يذكره ببلده، فتراه يحن للفول، و«العصيد»؛ و«السلتة»، وغيرها من الأشياء التي قد تكون بسيطة أو حتى قد لا يكون لها أي قيمة كهذا البيت السامج.

لكن ليس الأمر كذلك؛ فللبيت قيمة وأيُّ قيمة. وَلعلَّ هذا البيت الذي ذكره صاحب «الأغاني» يكون من أقدم الأبيات التي تشير إلى بدايات الحميني اليمني.

وقد كان الأستاذ والأديب الناقد الكبير السيد أحمد الشامي ذكر بَيتًا عن صاحب الأغاني لأعشى همدان المقتول على يد الحجاج  في حركة ابن الأشعث، وهو أقدم من هذا، إلا أنَّ كليهما في العصر الأموي. وهو:

مَنْ دَعَا لِي «غُزَيِّلِي»،

أربحَ اللَّهْ تِجارتُهْ


وذكر الأستاذ الشامي استنكار الأصمعي على ابن داب روايته هذه الأبيات عن أعشى همدان قائلاً: مَنْ ابن داب حين يزعم أنَّ أعشى همدان قال: ...؟!

ثُمَّ قال الأصمعي: سبحان الله. أمثل هذا يجوز على الأعشى؟ أن يجزم اسم الله عز وجل، ويرفع تجارته وهو نصب؟!".

واستبعد الأصمعي واستنكر أن يقول: «غُزَيِّلِي»، وإنَّما هو غزيل لي.

وقد رَدَّ الأستاذ الشامي على الأصمعي وخلف الأحمر استنكارهم  على ابن داب، وأرجع ذلك إلى عدم اطلاعهما واطلاع أمثالهما من علماء شمال الجزيرة وبغداد والشام على آداب أهل اليمن الخاصة، وذكر أنَّ اليمانين لا يزالون حتى هذه اللحظة على هذه الطريقة، ويستخدمون نفس العبارات، ويرفعون المنصوب، وينصبون المرفوع، ويجزمون هاء الجلالة في شعرهم الحميني، وأنهم لا يزالون يقولون: «دعالي» وليس «دَعَا لِـ...».

ثم أعقبَ ذلك قائلاً أنَّ هناك من تشكك في هذا النص، وزعم أنه موضوع على طريقة الدكتور طه حسين.

هذا غير الشواهد التي ذكرها الأستاذ الشامي عن صاحب «معجم البلدان»، ياقوت الحموي، وما ذكره الهمداني في «الإكليل».

وإذا ما رجعنا إلى معبد وحكمه على شيخ مضيفه بالجهل، وضيعة الفن والفنانين لديه، بعدم احتفائه به؛ مع قيامه بأحسن العروض والوصلات الغنائية بين يديه، فإنهُ -بحسب رأيي- أراد أن يكلف مضيفه مالا يطيق ولا يستطيع صَبرًا معه. فحال معبد كمن يطلب من شخص من تعز أو من حضرموت في أيامنا هذه أن يستمع أبيات عمر بن أبي ربيعة مغناة على طريقة أهل الحجاز القدماء، ويترك مقابل ذلك أغاني الفضول التي يغنيها أيوب طارش، أو أغاني المحضار التي يغنيها أبو بكر سالم بلفقيه! ومن هنا جاء سوء الفهم، وهذا الحكم الذي أصدره معبد على الرجل الشامي وشيخه.

الكلمات الدلالية