صنعاء 19C امطار خفيفة

قراءة في النزاع حول ملء وتشغيل سد النهضة الألفية الإثيوبي وشؤون تقنية

الموقف المصري من ارتفاع سد النهضة ومنسوب تخزين المياه الهائل في بحيرة السد

أوضح الدكتور شحاتة مغاوري، خبير مياه مصري، أنه عندما صمم هذا السد في عام 1964م، كان مقدرًا أن يتم حجز 11 مليار م3، وكانت له آثار سلبية في نفس الوقت، كما كانت هناك تحذيرات من هذه الآثار على الوضع البيئي في هذه المنطقة من حوض نهر النيل، ويتساءل حول آثاره السلبية الكبيرة عندما يصل التخزين إلى 74 مليار م3 على حساب ارتفاعه الكبير، وبحيرته الواسعة، مشيرًا إلى زيادة سعته 7 أضعاف عما كان مخططًا ومصممًا عليه بواسطة خبراء أمريكيين في مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي في سنة 1964م.. وهناك أيضًا -حسب رأيه- كان يجب عدم إنشاء السد، حيث إن معدل الأمان فيه لا يتجاوز 1.5%، والتوضيح أن معدل الخطر زاد بازدياد معدل الارتفاع، وكمية المياه المخزنة في بحيرة السد، وثقل جسم السد ذاته، بمعنى أن مصر أصبحت أمام خطر داهم، ويجب عدم الصمت أمامه، لافتًا إلى أن الخطورة البالغة تتمثل في أن السد منشأ على هضبة بازلتية.. وهي (صخور صلبة) تستجيب للمخرجات الزلزالية، وفي نفس الوقت (هشة) بحيث يتم تعريتها عندما تسقط عليها كميات مياه لفترات طويلة، وهنا خاصتان (الصلابة) و(سهلة التعرية) بمعنى تآكل سطحها تحت وطأة حركة المياه.. إذن، فالسد حسب الدكتور مغاوري معرض للانهيار.. وإن حدث ذلك يكون تأثيره على السودان مثلما (تأكل النار الهشيم)، وفي ظرف 6 ساعات من الممكن أن يصل خطره إلى بحيرة السد العالي.. وهذا أشد الأخطار على كل ما سيخلفه من أخطار، لكن لا يمكن الجزم بميعاد حدوثه، ولا أحد يعلم، متى؟ موضحًا أنه يتم قياس عامل الخطر بنقص كمية الأمطار، أو زيادتها، كما يتم، في نفس الوقت، صناعة قنوات تحويل.
ويشير مراقبون مصريون إلى أن سدًا بهذه السعة الكبيرة، وهذا الارتفاع المبالغ فيه، في المنطقة المذكورة أعلاه بالتحديد 40كم من حدود السودان، لا بد أن يصل إلى السعة والتخزين المطلوب، والارتفاع المطلوب أيضًا لإدارة التوربينات.. ويتطلب ذلك عددًا من السنوات لتخزين المياه.. وفي حال تخزين 36 مليار م3 لثلاث سنوات، والتي تعد نصف الكمية لتخزين المياه في السد، فمن المؤكد أن ما سيحتجز سنويًا 12 مليار م3 لـ6 أعوام.. كما أن حجز حوالي 9 مليارات م3 من المياه، سيؤثر على 1.5 مليون فدان من الأراضي المزروعة، وسينعكس ذلك على ملايين الأسر المصرية، محملين المسؤولية على الحكومات المصرية المتعاقبة منذُ أربعة عقود، التي لم تحسن التفاوض في مسألة المياه مع دول حوض النيل، وبخاصة إثيوبيا، بل غابت عن بعدها الأمني القومي الاستراتيجي إفريقيًا وعربيًا، واتجهت إلى خارج محيطها.. ولا بد من توضيح الخطر المحدق على تنفيذ مشروع سد النهضة على حياة المصريين، إقليميًا ودوليًا، منتقدين في نفس الوقت التواطؤ الدولي، والإقليمي المساند لإثيوبيا في أن تكون هي صاحبة الرؤية الاستراتيجية، والمهيمنة في محيطها.

موقف إثيوبيا بشأن ملء وتشغيل السد

أرجأ رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل مليس زيناوي، 2012م، تصديق البرلمان على اتفاق "الإطار التعاوني لحوض النيل"، إلى أن تنتخب مصر حكومة جديدة.. وقال بيركت سيمون، المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية، بأن غالبية دول المنبع صدقت عليها من خلال برلماناتها.. وأخرنا التصديق كبادرة حسن نوايا للشعب المصري إلى أن يتم تشكيل حكومة منتخبة، وأضاف: "موقفنا ثابت بشأن السدود.. وعازمون على استكمال مشروعاتنا".
وأوضح مليس زيناوي موقف إثيوبيا من بناء سد النهضة، في مقابلة أجرتها معه جريدة "الحياة"، في أديس أبابا، جرى نشرها يوم 12 مايو 2011م عدد (17569)، على النحو الآتي: حيث قال إنه لا يعرف سبب قلق المصريين من قرار أديس أبابا تدشين الأعمال الإنشائية لبناء سد النهضة على النيل الأزرق، موضحًا أن توليد الكهرباء من السدود لا يستهلك مياهًا، ولا ينطوي على تحويل مجاري الأنهار، لذلك لا يمكنهم -أي المصريون- القول: إننا بتوليد الكهرباء سنستغل مياهًا من حقهم أن يستغلوها، لأننا لن نستهلك تلك المياه، نحن فقط نقوم بتنظيم تدفقها حتى تشغل التوربينات الكهربائية.. فالمصريون غير قادرين على فهم ما نقوم به إزاء ذلك.. ويبدو أنهم يعانون من مشكلة، ونحن في حيرة من أمرهم.. فالسودانيون على عكس المصريين يفهمون ما نقوم به، وليست لديهم مشكلة حيالنا.. إننا ظللنا طوال السنوات العشر الماضية، نبني سدودًا، لكنها صغيرة، ومنها سد على نهر تكازي الذي يعرف بنهر عطبرة، عند وصوله إلى السودان، مستخدمين مواردنا الخاصة لإنتاج 350 ميغاواط.. كما بنينا نفقًا تحت بحيرة تانا التي ينبع منها نهر النيل الأزرق، يبلغ 18 كم، وهو أيضًا -أي النفق- أنشئ بمواردنا الخاصة، لتوليد 420 ميغاواط. عمومًا ظللنا نوسع قدراتنا على توليد الكهرباء ببناء سدود صغيرة.. وننوي تعبئة الشعب في إثيوبيا والخارج (80 مليون نسمة، حسب إحصاء عام 2011م)، لمشروع سد الألفية المسمى بعدئذ سد النهضة، ونعتقد أنه سيكون بوسعنا توفير تلك الموارد المالية (3.3 بليون يورو) لهذا المشروع في غضون خمس سنوات، من خلال إصدار سندات خزينة. وقد كان تجاوب الشعب الإثيوبي إيجابيًا، وأعطانا الثقة بأننا سنوفر التمويل المطلوب.. أنه ليس صعبًا أن يجمعوه.. مضيفًا أنه في ما يتعلق بالتكنولوجيا اللازمة لبناء هذا السد الضخم، تتولى شركة (إيطالية) أشغال الهندسة المدنية، وهناك شركة محلية ستتولى أشغال المقاولات، إلى جانب شركات مقاولات عالمية.
وبالنسبة لاتهام مصر لإثيوبيا بمحاولة حجز المياه وتحويل مجاري الروافد التي تغذي النيل الأزرق، أوضح زيناوي أن ذلك غير صحيح على الإطلاق، إذ سبق أن ذكرنا أن سد الألفية ليس سدًا للري، ولا توجد أصلًا أرض قابلة للزراعة في تلك المنطقة ليقال إنه سيرويها بمائه.
وأضاف أن السودان وحده هو الذي باستطاعته استخدام سد الألفية لأغراض الري، لكن إثيوبيا لن تستطيع.. فهو يقع على بعد 40 كم من حدود السودان، ويقع على منحدر صخري عميق، ولذلك، لا يسع إثيوبيا استخدامه في شيء سوى توليد الطاقة الكهربائية.. مؤكدًا أنه لم يتلقَّ أية شكوى من السودان، لأن الخرطوم تعرف منافع هذا السد بالنسبة إليها بسبب أنه لن يحدث بعد بنائه أي فيضان لنهر النيل في الخرطوم، كما أن السودان سيحقق فائدة أخرى، إذ إنه ظل يعاني من كثرة الطمي الذي عطل توربينات خزان الرصيرص، مما يتسبب عنه انقطاعات في التيار الكهربائي، وأنه بعد بناء سد الألفية ستواجه إثيوبيا، وليس السودان، مشكلة الطمي داخل أراضيها، وسيصبح خزان الرصيرص أكثر جدوى، وحين يتحقق ذلك فسيكون بوسع السودان التوسع في رقعة مشروع الجزيرة الزراعي الشهير.. لذلك نشعر -حسب زيناوي- بالحيرة حقًا، لأننا لا نعرف لماذا يعارض المصريون إنشاء سد الألفية الذي لن يؤثر في جريان مياه النيل، ولن نستخدمه في الزراعة.

تفاقم الخلافات بين إثيوبيا ودولتي المصب

تصاعد الخلاف ببن دولة المنبع الرئيسة (إثيوبيا)، ودولتي المصب (مصر والسودان)، منذ 9 سنوات من بداية إنشاء السد في أبريل 2011م.
وفي هذا الصدد، عقدت اجتماعات عدة بين الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) داخلية في ما بينها، وخارجية مع الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الإفريقي.
وتم التوصل إلى "اتفاق مبادئ" عام 2015م.

اتفاق مبادئ في مارس 2015م

تم التوقيع عليه في الخرطوم يوم 23 مارس 2015م، في قمة ثلاثية، ضمت رؤساء الدول الثلاث: مصر، والسودان، وإثيوبيا، بحضور ممثل البنك الدولي. تضمن الاتفاق، ورقة تشمل عشرة مبادئ تلتزم بها الدول الثلاث بشأن سد النهضة، على النحو الآتي:
1- التعاون المشترك واحترام المصالح لكل طرف، والتأكيد على أساس التفاهم المشترك والمنفعة المشتركة، وحسن النوايا، والمكاسب للجميع، والتعاون في تفهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب بمختلف مناحيها.
2- مبدأ التنمية، التكامل الإقليمي والاستدامة.
3- مبدأ عدم التسبب في ضرر ذي شأن.
4- مبدأ الاستخدام المنصف والمناسب.
5- مبدأ التعاون في الملء الأول وإدارة السد.
6- مبدأ بناء الثقة.
7- مبدأ تبادل المعلومات والبيانات.
8- مبدأ أمان السد.
9- مبدأ السيادة ووحدة إقليم الدولة.
10- مبدأ التسوية السلمية للمنازعات.
تلاه انعقاد اجتماعات حتى 6 أبريل 2021م، في "كنشاسا -جمهورية الكونغو الديمقراطية"، إلا أن الخلاف ظل قائمًا حول الاتفاق على ملء وتشغيل السد الذي وصل اكتمال بنائه بنسبة 79٪.. وقد برز الخلاف -حسب مراقبين- بعدما أقدمت إثيوبيا عام 2020م، على بدء عملية تخزين السد دون التشاور مع دولتي المصب، وأوضحت حينئذ، أن كل المسائل الخلافية مطروحة حاليًا أمام الاتحاد الإفريقي برئاسة الكونغو الديمقراطية، للتفاوض قبل الملء الثاني لخزان السد في يوليو 2021م. وفي هذا الصدد، طلبت مصر والسودان رسميًا "إيقاف المحادثات المباشرة"، وإنشاء وساطة دولية برئاسة الاتحاد الإفريقي للعب دور فعال لكسر الجمود في المفاوضات الثلاثية التي لم تنجح على مدى 9 سنوات في التوصل لاتفاق نهائي بشأن السد، على أن تشمل المشاركة الرباعية (الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، والأمين العام للأمم المتحدة)، وذلك بدعم وتسهيل مهمة الاتحاد الإفريقي، فضلًا عن معالجة القضايا الخلافية دون الإضرار بأي طرف. وأكدت الخرطوم التزامها بالقوانين الدولية، وترفض أية خطوة إثيوبية بتعبئة خزان السد أحاديًا، الأمر الذي سيزيد من تفاقم الأمور.. وذكر الجانب الإثيوبي، أنه لم يتلقَّ أية معلومات بشأن الوساطة، وأنه ملتزم بالقوانين الدولية للمياه العابرة للحدود، وبما أن المفاوضات لم تسفر عن نتائج إيجابية، مع دولتي المصب، فإنه يفضل الرجوع إلى البيت الإفريقي (الاتحاد الإفريقي) كحل مناسب.
وقد تقدم رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية بمقترح في الأسبوع الأخير من يونيو 2021، يهدف إلى اتفاق مرحلي لتعبئة خزان سد النهضة بضمانات دولية، وعودة إثيوبيا للمفاوضات، تدعمه كل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.
وافق السودان على المقترح بشروط من ضمنها الضمانات، وهناك اتفاق مصري سوداني حسب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بأهمية التنسيق المتكامل والشامل بخصوص السد بين السودان ومصر، ويؤكد الجانب المصري تحفظه على اتفاق منفرد بشأن سد النهضة، وكذا عدم عقد اتفاقيات مرحلية أو منفردة للملء الثاني لسد النهضة.
من الجدير بالذكر، أن هناك ترتيبات إثيوبية جديدة لملء بحيرة السد في نهاية يوليو 2024م، ويعتبر الملء الخامس حسب د. محمد محمود مهران، أستاذ القانون الدولي -القاهرة. وقد ترتفع كمية التخزين بنحو 45 مليار متر مكعب. ويحدث ذلك دون تشاور أو تنسيق إثيوبي مع مصر والسودان بملء خزان السد.
وقد استجدت معلومات في أغسطس 2025م، بأن التخزين قد يببلغ نحو 60 مليار متر مكعب.. مع العلم أن السعة التخزينية النهائية للسد 74 مليار متر مكعب.. وماتزال المخاوف قائمة من النشاط الزلزالي وتسرب المياه من السد، الذي قد يؤدي إلى مشاكل في التربة المحيطة بالصدع الزلزالي والانهيارات، ناهيك عن الفيضانات الكاسحة صوب دولتي المصب.

الرأي والاستنتاج

وبتصوري، إن الأمور لن تستمر في أخذ ورد بين الدول الثلاث، وبخاصة مع التعقيدات في الملف الحدودي بين إثيوبيا والسودان -في منطقة الفشقة- رغم أن الخرطوم، حسب وزارة الخارجيه السودانية، ليس لديها أية نية لخلق بلبلة أو الدخول في حرب مع إثيوبيا، وأن سياستها قائمة على حسن الجوار، وأرى أن يتم الفصل بين الملفين المائي والسياسي، والبدء بالتعاطي السريع في الملف المائي، نظرًا لأنه الأكثر أهمية في الوقت الراهن.
يقينًا، إنه يجب ترسية بناء الثقة، وتعزيز التعاون والتنسيق في المجالات المختلفه بين إثيوبيا ومصر والسودان، إلا أن كلمة (التعاون) تبقى كلمة مجردة لا معنى لها ما لم يسبقها تحسن في العلاقات بين دولتي المصب ودول المنابع، وعدم تدخل إحداها بالشؤون الداخلية للأخرى.
وبناء عليه، فإن مبادرة تعزيز العلاقات الثنائية بين دولتي المصب ودول المنابع، في مقدمتها إثيوبيا، سوف تؤدي إلى تسوية الأزمة المائية والحدودية أيضًا بيسر وسهولة في ما بينها.
وبالنظر إلى أن استخدام القوة أو مجرد التهديد بها في العلاقات الدولية، هو أمر غير مشروع كقاعدة عامة، طبقًا لأحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
إن الحرب على المياه بين الدول الجارة لا تخدم أية دولة بقدر ما تؤدي إلى مشاكل لا تحمد عقباها في المنطقة، مما يفتح المجال واسعًا لتدخل الكيان الإسرائيلي للضغط على مصر عن طريق إثيوبيا، وكذا التدخلات الأجنبية بذريعة حماية المصالح ومكافحة الإرهاب حفاظًا على الأمن والسلم الدوليين، وبحكم قرب حوض النيل من منابع النفط والغاز، والممرات المائية الاستراتيجية لعبور ناقلات النفط والتجارة العالمية، كما أن الحرب في المنطقة ستولد حروبًا أخرى لن تتوقف إلا بدمار دول الحوض وتجزئتها لصالح القوى الخارجية ومشاريعها الإمبريالية في المنطقة.

الكلمات الدلالية