صنعاء 19C امطار خفيفة

الشاعر " توتي" صوت الحرية في وجه الجماعة الظالمة

في إطار سعي جماعة أنصار الحوثي إلى إسكات أي صوت مختلف لا يسبّح بحمدها، اعتقلت سلطاتها في محافظة ذمار قبل يومين الشاعر الأستاذ أحمد ناصر توتي. وقد تعرفتُ على أحمد للمرة الأولى في سبتمبر من العام الماضي، داخل أحد سجون الجماعة، حيث جمعتنا جلسات مطوّلة في الشعر والفكر والأدب.

للوهلة الأولى تحسب الرجل شاعرًا شعبيًا، لكنك رويدًا رويدًا تكتشف أن الرجل ينظم الشعر الفصيح والنثر إلى جانب الشعر الشعبي، فضلًا عن براعته في اللغة العربية، إذ يحمل ليسانس آداب في اللغة العربية من جامعة صنعاء. وللشاعر سجالات ومشاركات شعرية مشهودة، حلق بنا في كثير من فصولها ومشاهدها ومحطاتها خلال فترة بقائنا في السجن، وارتجل مع بعض المساجين مقاطع شعرية وزوامل في الحال، وكلها كانت تخفف علينا من الضغط النفسي الذي يعيشه أي سجين.
توتي( منصات)
التهمة التي ساقته إلى السجن كانت قصيدة نشرها على حسابه في "فيسبوك" عبر مقطع فيديو، ثم أعادت قناة الجمهورية بثها، مما استدعى انتباه مرتزقة الجماعة، بخاصة وأن القصيدة كانت في مدح الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح. لذلك كان الجرم كبيرًا ومشهودًا، وتضاعف الجرم عندما أعادت قناة الجمهورية بث القصيدة!
بمجرد دخوله زنزانة السجن، رحبنا به، وتحلقنا حوله كأي سجين جديد يلج الزنزانة، والأسئلة تتقافز من أفواه السجناء: ما قضيتك؟ شرحها لنا بإيجاز، ثم طلبتُ منه أن يلقي علينا القصيدة التي تسببت في سجنه. لم يتردد لحظة واحدة، رغم تحذير بعض السجناء من أن ذلك قد يجلب له مزيدًا من المتاعب. تجاهل التحذير، اعتدل في جلسته، وأعاد ترتيب شاله على رأسه، ثم انطلق يلقي القصيدة العصماء كالسيل الجارف.
خلال فترة "زمالتنا" الإجبارية في السجن، اكتشفتُ الكثير من جوانب شخصية الشاعر، لكن أكثر ما أدهشني كان تشيعه المفرط للرئيس صالح، ومجاهرته بحبه ومدحه حدّ التطرّف، رغم إدراكه التام لعواقب ذلك في مناطق سيطرة الحوثيين، حتى إنني خلت أن تشيعه وولاءه لصالح يفوق ولاء الشيعة مجتمعين للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، ولو وُزن الأمر في كفتين، ووضع تشيعه لـ"صالح" في كفة، وتشيع الشيعة مجتمعين لـ"الإمام علي" في كفة أخرى، لرجحت كفة توتي في حبّه وتشيعه للرئيس صالح!
عندما كان يتم استدعاؤنا من قبل المحققين إلى جلسات التحقيق المملّة والغبية، كان الشاعر توتي لا يتردد في أن يكشف للمحقق مشاعره وحبه لصالح.. ويؤكد: لن أتنازل أو أتراجع عن حب صالح حتى ولو حكم عليّ بالسجن المؤبد.
كان الشاعر مقتنعًا تمامًا بأن هذه الجماعة لا تصلح للحكم، وأن تصرفاتها تفتقر للعقلانية والحس الوطني. وهو ما تجلّى بوضوح في حملة الاعتقالات الواسعة وتبني الجماعة لسردية تآمريه جلبت على إثرها آلاف الناس إلى السجون.
بعد نحو شهر من السجن الظالم، قررت الجماعة الإفراج عمّن وصفتهم بـ"السبتمبريين"، وجيء بجميع السجناء الذين توزعوا في أكثر من جهة إلى السجن الذي كنا فيه أنا وشاعرنا العظيم. جمعونا في حوش السجن، وحضر مدير أمن المحافظة ومشرف المحافظة وعدد من المسؤولين، وانتظموا في صف طويل، وبدأ المشرف ومدير الأمن التحدث إلينا من منطلق استعلائي وتوبيخي. حدثونا عن الوطن والوطنية والخيانة والعمالة والارتزاق.. عن الوطني الحقّ الذي يمثله "هم وجماعتهم"، وعن المواطن العميل الذي نمثله "نحن"! عن دورهم في الحفاظ على الوطن من الاحتلال، وحفظ كرامة المواطن، وعن مواجهتهم إسرائيل وأميركا.
بعد أن استكمل القياديان الحوثيان كلمتيهما، وجّه أحدهما الحديث مباشرة نحو الشاعر أحمد ناصر توتي، متهكمًا وساخرًا من مديحه لصالح، وفي الوقت نفسه طلب منه كتابة قصيدة في مدح "المسيرة والسيد"، لكن الرد جاء حاسمًا من توتي: "أمتدح صالح عن قناعة، لن أستطيع أن أكتب في مدحكم وهذه أفعالكم". كان الرد صفعة قوية في وجه القيادات الحوثية التي جاءت لتبلغنا قرار الإفراج عنا وتحاضرنا عن حب الوطن. حاول البعض الضغط على توتي وإحراجه والتهديد باستمرار محبوسيته، لكن الرفض القاطع كان سيد الموقف.
عند ذلك ربط مشرف المحافظة قرار الإفراج عنا بموافقة والتزام وضمان من مشرفي المديريات، بحيث يأتي كل مشرف مديرية ويوقع التزامات مع من يعنيه من أبناء مديريته، زيادةً في إذلال وإهانة السجناء، فما كان من الشاعر توتي إلا أن رفض الفكرة، وتواجه مع المشرف برجولة وثقة ومنطق، ووجّه له كلامًا قاسيًا وشديدًا، الأمر الذي دفع المشرف إلى تهديد توتي بتمديد محبوسيته، لكنه رد بكل شموخ وثقة بالنفس: "خزّوها.. أنتم من قوتكم واحنا من ضعفنا"!
كان في الحقيقة موقفًا بطوليًا للشاعر أحمد ناصر توتي في وجه الظلم والطغيان. ورغم تقدم سنه واعتلال صحته، لم يأبه للمخاطر التي قد تنتج من موقف كهذا في وقت حرج كهذا، والكل ينتظر على أحرّ من الجمر خروجه من المعتقل. وحتى لا يعوق أمر الإفراج أي عائق كنا نستمع لأحاديث القياديين الحوثيين بصمت، ودماؤنا تغلي من نبرة التعالي والغرور والكبر واستعراض القوة والمغالطات والتدليس الذي كانوا يتحدثون به، لكن الأستاذ أحمد كسر حالة الجمود بصوته الملعلع ومنطقه الرصين، وصدع بالحق في وجوههم دون خوف أو وجل.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن جماعة أنصار الحوثي تعتبر الشاعر أحمد توتي شجاعًا وقويًا في مواجهتها، وفي تصريحه المستمر بحب ومدح الرئيس السابق، الذي لا يخفيه سواء في مجالسه أو على حسابه في منصة "فيسبوك"، وأن جرأته هذه قد تدفع آخرين إلى التعبير عن حبهم للرئيس صالح، وهذا الأمر يجعلهم يفقدون صوابهم. وبالتالي، فإن التعامل الأمثل معه من وجهة نظرهم يجب أن يكون بالقمع والسجن والإرهاب، مع أن ما يفعله حق مكفول كفله له الشرع والدستور والقانون، ولا يشكل أي خطر حقيقي على الجماعة. لكن لأن "الغويان" ومحدودي الأفق وصغار العقول هم من يتحكم في الجماعة، فكل نقيصة أو خطيئة متوقعة وواردة.
وأعتقد أن هذه الممارسات التعسفية ووقائع البطش والتنكيل بحق من لا يسير في ركب الجماعة الطائشة المغرورة، لن تتوقف، وأتوقع أن تشهد الأيام القادمة حملة اعتقالات واسعة في جميع مناطق سيطرة الجماعة، تزامنًا مع 26 سبتمبر، تطال المئات وربما الآلاف ممن يبدون رأيًا لا يتماشى مع سياسات الجماعة. وستكون التهم المُعلبة السخيفة جاهزة، والسرديات الوهمية معدّة: "العمالة والخيانة والارتزاق والتحريض على الدولة، وإقلاق السكينة العامة، واستلام الأموال من الخارج"، شماعات جاهزة لإشهارها في وجه الشعب المثخن بالجراح. جراح جماعة استمرأت الكذب والتدليس والطغيان.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الكلمات الدلالية