اليمن يتآكل يا سلطات الواقع
منذ أن بدأت فكرة التوريث تتسلل إلى كيان الدولة، ومنذ اجتياح الجنوب في صيف 1994م، لم تعد الجمهورية اليمنية كما كانت. الحلم الجمهوري بدأ يتآكل، قطعةً قطعة، كما يتساقط العلم في هذه الصورة.
اتفاقية جدة لعام 2000م، سيئة الذكر، كانت أحد أبرز مفاصل الانهيار الجغرافي للدولة اليمنية. فرّط النظام حينها بمساحة شاسعة تُقدر بـ820 ألف كيلومتر مربع من صحراء الربع الخالي. قال عنها الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر إنها "حفنة تراب" وإن العلاقة مع السعودية أحب إليه منها. بينما وقّع عبدالقادر باجمال ما سُمّي بـ"مذكرة تفاهم" لكنها في الحقيقة كانت اتفاقية مكتملة الأركان.
وبحسب نص المادة الأولى، أعيد الاعتراف بشرعية معاهدة الطائف لعام 1934م، والتي كان الأئمة في فترات مختلفة قد رفضوا تجديدها: الإمام أحمد عام 1954م، الإمام محمد البدر عام 1970م، وحتى القاضي عبدالرحمن الإرياني في 1973م رفض تعميد التجديد الذي وقّعه الوفد اليمني برئاسة رئيس الوزراء القاضي عبدالله الحجري ونائب رئيس الوزراء وزير الخارجية محمد أحمد نعمان. حينها قال كلمته الشهيرة: "والله لن أقبل أن أكون أقل وطنية من الإمام أحمد".
لكن علي عبدالله صالح وافق على توقيع اتفاقية جدة لسبب سياسي خالص، بعيد كل البعد عن المصلحة الوطنية: وعدته السعودية بأنها ستطبّق بندًا غير مكتوب من معاهدة الطائف، ينصّ على أن يعترف كل طرف بشرعية سلالة الطرف الآخر في الحكم، أي أن يعترف السعوديون بانتقال الحكم في اليمن لنجله أحمد علي، كما اعترف الإمام يحيى للملك عبدالعزيز بالملك، ومن بعده أولاده، والعكس.
اليوم، ونحن نرى التضخيم الإعلامي لنجل صالح، نُدرك أن الاتفاق لم يكن إلا تمهيدًا لتوريث السلطة، لا لحفظ السيادة. واللافت أن هذا الترويج أثار هلع سلطات الواقع في صنعاء، فاستعجلت إصدار حكم إعدام ومصادرة أمواله، في خطوة سياسية لا علاقة لها بالقانون أو العدالة.
وكان من ضمن الوفد اليمني حينها الدكتور رشاد العليمي (رئيس مجلس القيادة اليوم)، والدكتور صالح سميع، والدكتور أحمد البشاري. لقد كانت تلك الاتفاقية لحظة حاسمة تم فيها التنازل عما يزيد عن مليون ومئتي ألف كيلومتر مربع من الأراضي، أي ما يعادل ثلاثة أرباع اليمن الطبيعي، كل ذلك دون استفتاء، ولا حتى توضيح للشعب.
لكن النزيف لم يتوقف عند حدود الجغرافيا. اليوم، ما تبقى من اليمن يتعرض للتفكيك الممنهج.
حضرموت، المهرة، شبوة، مأرب، الجوف، كلها أصبحت ساحات للصراع الإقليمي والدولي، تسابق على الثروات، الموانئ، والمواقع الاستراتيجية. وكل طرف في الداخل يتحرك كوكيل لطرف خارجي، ينهش ما تبقى من الجسد اليمني المنهك.
سلطات الواقع، بكل أطيافها من صنعاء إلى عدن، من مأرب إلى سيئون، أصبحت جزءًا من هذا التآكل. تُوزّع السلطة والثروة على الطاولات المغلقة، وكأن الأرض لا تعني لهم شيئًا، وكأن الشعب لا وجود له، وكأن التاريخ بلا شهود.
اليمن اليوم، كما يُظهر العلم في هذه الصورة، لم يعد موحدًا، ولا جمهوريًا، ولا مستقلًا.
وما لم تتوقف هذه المهزلة الوطنية والسياسية والجغرافية، فإن ما تبقى من الوطن قد لا يصمد طويلًا.