مشروع "إسرائيل الكبرى".. من جدران كازينو بازل إلى واقع استيطاني ماثل في وضع عربي مائل
في وضع عربي معتل استمرأ التقصير في ما كان يراه التزامًا قوميًا مصيريًا نحو ما كان يسميه "قضيةالعرب الأولى"، فلسطين، يواصل مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وهو بكامل الثقة، الإعلان عن سياسات الكيان الصهيوني الاستعمارية التوسعية، وهو يعي أن موجة الغضب الشعبي والسياسي العربي والدولي المناهض للكيان الصهيوني، على ما يرتكبه من حرب إبادة وتجويع بحق الشعب الفلسطيني في غزة، لن تثنيه مهما بلغت ذروتها طالما أن الولايات المتحدة في جيبه.
في محاولة لصرف الأنظار عن جرائم دولته الوحشية في غزة والضفة ولبنان وسوريا، ولإعادة شدّ العصب وتعزيز العصبية الصهيونية في الشارع الإسرائيلي وفي مراكز التاثير الصهيونية على صناع القرار في كل أنحاء العالم، أطلّ نتنياهو وبعض أعضاء في حكومته بتصريحات استفزازية وعنجهية غير مسبوقة، معلنين عدم التراجع عن قيام "إسرائيل الكبرى".
نتنياهو أكد أنه في "مهمة روحية وتاريخية"، واجبة التنفيذ، وكأن الوقت قد حان لإخراج هذا المشروع من الظل إلى العلن، في ظل العجز العربي والتواطؤ الدولي لمقاومة التوسع الصهيوني في أراضي ست دول عربية.
بدأ التحضير لهذا المشروع منذ 130 عامًا، وبعد تأسيس الكيان عام 1948 لم يعد حبيس جدران "كازينو بازل" في سويسرا، الذي انعقد فيه المؤتمر الصهيوني الأول في 29-31 أغسطس 1897، برئاسة الصهيوني النمساوي تيودور هرتزل.
لقد سنحت لي الفرصة بعد جهد جهيد زيارة المكان في صيف عام 2010، ودخلتُ قاعة الكازينو التي احتضنت المؤتمر، أو المؤامرة، وكان في استقبالي لوحة تذكارية عند مدخله مكتوبة بثلاث لغات، تُحيل إلى أيامٍ وقراراتٍ مازالت تزعزع استقرارنا، وتصر على رسم حاضر ومستقبل منطقتنا، وتهدد وجود الشعب الفلسطيني.
في داخلها، تتجاور الزخارف الأوروبية الكلاسيكية مع مقاعد خشبية عتيقة وصورٍ لهرتزل ورفاقه، وكل شيء يوحي بأن المكان تحول من صالة حفلات إلى منصة لوضع خرائط سياسية تتجاوز حدود المدينة.
قرأتُ العبارة المنسوبة لهرتزل في مذكّراته عن مخرجات ذلك المؤتمر: «لقد أسست هنا الدولة اليهودية... وإن لم يحدث هذا خلال خمس سنوات فسيحدث بعد خمسين سنة»؛ جملة قصيرة بثقل تاريخٍ دموي استثنائي قل نظيره. وقد تحقق ما قاله بعدها بنحو واحد وخمسين عامًا، بقيام الكيان الصهيوني، بقرار من الأمم المتحدة، استخدمت فيه الحركة الصهيونية وداعموها الرشى للحصول على أصوات بعض الدول. ونحن نيام.
تأملتُ الجدران وكأنها ماتزال تحتفظ بأصداء النقاشات الأولى حول «الدولة اليهودية» في فلسطين العربية، وكيف ستقوم، وبأية أدوات.
خطر لي أن هذا المكان البعيد جغرافيًا عن فلسطين، كان أقرب ما يكون إلى غرفة عمليات لاغتصاب وطنٍ لأناس يدعون وصلًا تاريخيًا زائفًا به.. هنا وُضعت البدايات الفكرية والتنظيمية والحركية لمشروعٍ تمدّد لاحقًا على الأرض، فصل الجسد العربي إلى أوصال، وجرّ وراءه تواطؤاتٍ إقليمية ودولية، فيما دفع الفلسطينيون كل الثمن.
خرجتُ من القاعة وأنا أشعر أن «مشروع إسرائيل الكبرى» لم يعد حبيس جدران الكازينو؛ فما صيغ هنا بافتراء على «التاريخ والدين»، نراه اليوم يُترجم إلى خرائط استيطان وخطط تهويد على الأرض، وعمل لا يكل ولا يمل. ونحن نصرح ونصرح ونستغيث بالغير.
منذ ذلك المؤتمر، عملت المنظمات الصهيونية على تنفيذ قراراته بخطوات مدروسة ومتزامنة، بتنظيمها هجرات يهودية إلى فلسطين، مستغلة تحولات إقليمية ودولية. تنامى الاستيطان، وفرضت الوقائع على الأرض. ونحن وفي المقدمة الخلافة العثمانية عاجزون.
واليوم، وبعد أكثر من قرن، يرى قادة هذا الكيان أن الفرصة مواتية لاحتلال كل فلسطين، واستقطاع
أراضٍ عربية أخرى لتنفيذ مشروعهم من "النيل إلى الفرات"، وتوسيع نطاق سيطرتهم تحت شعارات دينية وتاريخية مزعومة تسندها القوة والتواطؤ الدولي، ويمهد لها الطريق الانقسام العربي.
إن صحونا اليوم -وإن جاءت الصحوة متأخرًة- أفضل من أن نستسلم لفرض أكثر من أمر واقع يزلزل كياناتنا. في هذا السياق، تابعنا المواقف العربية الرسمية الرافضة لتصريحات نتنياهو وخطة الاستيطان المعروفة بـ"E1"، والإدانات القوية من جامعة الدول العربية، وجمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، ودولة الكويت، وغيرها من الدول العربية والإسلامية، التي أكدت أن هذه المشاريع تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وخطرًا يهدد الوجود العربي ذاته.
لكن، يجب ألا نكتفي بالإدانات والبيانات والتصريحات؛ بل ينبغي أن يتبع ذلك خطة عمل واضحة ومشروع عربي متكامل لمواجهة المشروع الصهيوني التوسعي الذي يهدد الأمة العربية ومقدساتها ووجودها.
لقد أثبتت التجارب أن هذا الكيان لا يسعى للسلام، ولا لتطبيع العلاقات ونيل الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة أو للانسحاب من الأراضي المحتلة في سوريا ولبنان، أو توخي الاستقرار في المنطقة، بل يسعى دومًا إلى إشعال الأزمات وإدامة الصراعات، لأن السلام الحقيقي يهدد وجوده القائم على الحروب والنزاعات، التي يستمد منها قوته وبقاءه ودعم الولايات المتحدة غير المشروط له.
لقد حذرنا مرارًا، منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم، من أن حرب الإبادة والاستيطان لن تتوقف عند حدود غزة والضفة الغربية، بل ستمتد إلى لبنان وسوريا والأردن ومصر والسعودية، وهو ما أعلنه اليوم مجرم الحرب الفاشي، بنيامين نتنياهو، في تحدٍّ صارخ للدول العربية وللمجتمع الدولي.
وعليه، فإننا نناشد الدول العربية عقد قمة عربية طارئة لاتخاذ موقف موحّد لمواجهة هذا المشروع الصهيوني التوسعي الخطير، واستخدام جميع الإمكانيات العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، قبل أن يقع الفأس في الرأس، ويصبح ما نحذّر منه اليوم واقعًا لا يمكن التراجع عنه.
دقت ساعة العمل العربي. فلسطين تناديكم. لا تخذلوها.
* الرئيس اليمني الأسبق