عدالة مفقودة.. وذاكرة لا تنسى
إلى رئيس تحرير صحيفة النداء
الاستاذ سامي غالب
تحيةً مضمخةً برماد الذاكرة، تلك التي لا تنام.
طبعا لا تموت الأحزان في اليمن، بل تتنقل من جيل إلى جيل، كأنها وصية معلقة في رقبة هذا البلد المنهك.
وهي ليست مجرد أحداث عبرت، بل جراحٌ لا تزال تنزف تحت رماد الخوف والتجاهل والتاريخ المكتوب بالدم.
تعرف أنه في 2012 و2013، كأننا عدنا إلى ذات المشهد: يتحايل الجميع على العدالة، ويمررون مشاريعهم على أنقاض الحقيقة. إذ تم تغييب العدالة الانتقالية تحت لافتة "التوافق"، فارتبك المسار، وتاهت اليمن أكثر في متاهة اللاعدالة.
وأنت، أيها العزيز، حين تكتب من ضميرك عن مؤتمر الحوار الوطني، إنما تفتح جرحا ما زال ينزف. لأننا ،كما قلت ، قفزنا جميعا فوق ما هو جوهري: الاعتراف بالضحايا، الكشف عن المفقودين، القصاص العادل. وحين تتأجل العدالة، تولد الحروب.
لذلك أحن إلى النداء، تلك الصحيفة التي كنتُ فيها شاهداً لا محرراً فقط، حين كتبنا عن قصة الإخفاء القسري لعبد العزيز عون. كانت قصة واحدة من مئات، لكنها كانت مرآة لهذا الوطن المكسور، الذي تتبدل فيه الجبهات لكن لا تتبدل المأساة.

قرأنا شهادة هادي عامر، سمعنا اعترافات متأخرة عن غشم الجبهة القومية، ونعرف تماماً ما حل بجبهة التحرير، بقحطان الشعبي، بعبد اللطيف، بسالمين، بفتاح.. ثم نظرنا شمالا، فوجدنا اليسار يُصفى كما صُفِّي الحمدي والغشمي، ورُكن السلال والارياني في عزلة المنفى.
فهل هذا بلد أم مقبرة أفكار؟ وهل نحن مشروع وطن، أم مشروع اقتتال دائم؟
تتذكر حين قامت الوحدة، كان يجب أن تكون العدالة بوابة المستقبل، لكن النظامين الشموليين تحالفا على النسيان.
أي لم تُفتح الملفات، لم يُعترف بالضحايا، لم يُفرج عن المختفين، ولم تُمارس الحقيقة.
فأصبحنا في دائرة مغلقة: كل سلطة تقصي الأخرى، وكل حزب يرث دم الحزب الذي قبله، وكل ضحية تُنكر، حتى إذا صارت السلطة ضحية، طالبت بالعدالة التي أنكرتها لغيرها.
واليوم، كأن شيئا لم يتغير.
نشهد الإخفاء القسري ذاته، لكن بأقنعة جديدة.
يُخفى الاشتراكي لأنه يختلف، ويُسجن الإصلاحي لأنه يُعارض، ويُطارد المستقل لأنه لا يصطف، ويُقمع المؤتمري لأنه يذكرهم بماض لم يُحاسب.
والمفارقة المرة أن جماعة كالح..وثيين، لطالما ادعت المظلومية وتحدثت عن القمع، أصبحت تمارس ذات القمع وأكثر.
كأن من يصل إلى السلطة في اليمن يُسلَب عقله، أو كأن العقل اليمني حين يمسك العصا، يفقد الذاكرة ويستعير سوط الجلاد السابق.
واعني لم تكن المشكلة يوما في الجهة القامعة فقط، بل في غياب الضمير الجمعي، في غياب "العدالة" كقيمة تأسيسية للدولة.
وما لم تتجذر هذه القيمة في وعينا السياسي، فكل تغيير ليس سوى تبادل أدوار على مسرح الظلم ذاته.
فيا أيها العزيز:
من صحيفتكم تعلمنا أن الإنسان أولاً.و أن العدالة ليست رفاهية، بل ضرورة وجود. كما أن كل تحايل عليها هو حجر آخر في قبر اليمن.
أما، ونحن نرقب البلاد تنزلق منذ أكثر من عشر سنوات إلى منحدر جديد، ندرك أن الفهلوة الشمولية لم تكن مجرد خدعة عابرة، بل كانت لعنة، وما لم نقف لحظة صدق مع التاريخ، سنعيده أكثر قسوة كل مرة.
لذلك لك، ولكل الصحفيين الأحرار زملائي في النداء، تحية بحجم هذا الحزن النبيل.
ولتكن النداء دائماً صوت الذين لا صوت لهم.