كيف تم اختطاف وزارة الخارجية عبر شبكة الدخل الإضافي؟
منذ أكثر من عقد من الزمن، ظل موقع وكيل الشؤون المالية في وزارة الخارجية اليمنية عصيًّا على التغيير، محصنًا بشبكة فساد متشابكة محلية وخارجية استثمرت في ثغرات النظام المالي والدبلوماسي، وتمكنت من خلق منظومة تحكم غير خاضعة للرقابة قائمة على مورد خفي يُعرف بالدخل الإضافي.
الدخل الإضافي، وهو رسوم تفرضها بعض البعثات فوق الرسوم القنصلية الرسمية، بدأ كإجراء مؤقت لتغطية نفقات البعثات في بعض الدول ذات الجاليات الكبيرة، لكنه تحوّل تدريجيًا إلى منجم غير قانوني للثراء الشخصي والهيمنة الإدارية، فبينما الدخل القنصلي مشروع ويخضع لمصلحة الضرائب، فإن هذا الدخل الإضافي لا يستند لأي تشريع دستوري أو لائحة مالية، بل يُدار كصندوق شخصي خارج سلطة الدولة.
أحد الأمثلة الصارخة نجده في القنصلية اليمنية في جدة، حيث تشير التقديرات إلى أن متوسط الدخل اليومي (قنصلي + إضافي) يصل إلى مئات الآلاف من الريال السعودي، أي ما يتجاوز 10 ملايين ريال شهريًا، بما يعادل أكثر من 2.6 مليون دولار سنويًا. ومع أن هذه الأموال تُحصَّل باسم الدولة، فإنها لا تذهب إلى خزينة الدولة، بل تُحوَّل إلى حسابات خاصة يُشرف عليها مركز القرار المالي في الوزارة، وهناك أمثلة كثيرة للبعثات التي حجم الدخل الإضافي فيها كبير من أهمها (دبي، لندن، نيويورك، طوكيو، القاهرة، عمان، باريس).
وفي عام 2015، وبعد انتقال قيادة الوزارة إلى الخارج، تم الاتفاق مع البنك المركزي على تحويل هذه العوائد إلى حساب رسمي لتغطية رواتب البعثات، إلا أن الاتفاق لم يُنفذ، ونتيجة لذلك لم تُصرف مستحقات الدبلوماسيين رغم أن دخل بعثة واحدة فقط فاق 12 مليون دولار في تلك الفترة بحسب مصادر مطلعة.
الأدهى من ذلك أن بعض البعثات اضطرت لصرف رواتبها من وفوراتها المالية، بينما كانت نفس المخصصات تُحوَّل لها مجددًا من القيادة، بما يعني ازدواجًا في الصرف ونهبًا منظمًا للأموال العامة في بعثة أوروبية واحدة بلغ الوفر أكثر من 60 ألف يورو تم استخدامه لتغطية النفقات، في حين أُعيد إرسال نفس المبلغ إلى حساب خاص في الأردن تحت إشراف الشؤون المالية ومكتب الوكيل، في سيناريو تكرر مرارًا في أكثر من بعثة.
في حادثة وارسو الموثقة رفض القائم بالأعمال في حينة صرف 170 ألف دولار من وفورات البعثة لشراء سيارات بناءً على توجيهات الوكيل، مما أدى إلى إرسال لجنة جرد في محاولة للضغط عليه، في سابقة تعكس طبيعة التحكم المالي القائم على الولاء لا القانون، وهناك أمثلة متعددة سنفرد لها مقال مستقل.
هذه الوفورات لا تقتصر على الدخل الإضافي، بل تشمل أيضًا فوارق التأمين مخصصات الصيانة وإيجارات عقارات الدولة (مثل إيجارات لندن وباريس وغيرها)، وجميعها تُصرف بتوجيهات مباشرة ودون رقابة، ما يؤكد وجود حسابات موازية تُدار خارج مؤسسات الدولة الرقابية.
وقد فشلت كل محاولات الإصلاح منذ صدور اللائحة التنظيمية قبل الحرب، إذ لم تُنفذ الضوابط الخاصة بتحصيل الدخل الإضافي، ولم يُحاسب أي مسؤول على مخالفته لها، بل تحولت تلك اللائحة إلى مجرد وثيقة شكلية لرفع العتب أمام الداخل والخارج.
خطورة هذه المنظومة تكمن في استخدامها ليس فقط كرافد غير قانوني للتمويل، بل كوسيلة للتحكم الإداري والسياسي داخل الوزارة، من خلال هذا الدخل تُدار شبكة واسعة من العلاقات القائمة على التعيينات غير القانونية التمديدات المحابية والإقصاء الممنهج للكفاءات، ما حوّل بعض السفارات إلى أدوات جباية ومراكز لإعادة توزيع الثروة خارج الأطر الشرعية للدولة.
في مواجهة هذا الواقع يصبح تجفيف منابع الفساد وعلى رأسها الدخل الإضافي ضرورة وطنية عاجلة، وليس مجرد خيار إداري، فلا إصلاح ماليًا بدون إلغاء هذا الدخل، ولا استقلال دبلوماسيًا بدون إنهاء سلطة الشبكات الموازية، ولا عدالة إدارية بدون تفكيك مراكز النفوذ التي قامت على حساب الموظف والمغترب والدولة.
فهل تتجرأ القيادة على اتخاذ القرار الذي طال انتظاره؟
وهل نشهد أخيرًا استعادة وزارة الخارجية لدورها كمؤسسة دولة لا كدكان شخصي تتحكم فيه قلة وتدفع ثمنه الأغلبية؟