صنعاء 19C امطار خفيفة

عن شرفة القرشي التي أطل منها على عالم مستأنس

عن شرفة القرشي التي أطل منها على عالم مستأنس
الصورة بعدسة الكاتب يوليو 2025 -عدن

كنا ذات مساء حار في صيف 1992، أنا والصديق الشاعر والصحفي جلال أحمد سعيد، نعبر الرصيف الأيمن للشارع المؤدي من مجمع البنوك إلى جولة الفل في قلب كريتر، بالقرب من المتحف الحربي ومكتبة باذيب، وإذا بصوت أجش ينادي علينا، وحينما رفعنا بصرينا باتجاه الموضع الآتي منه الصوت، فإذا بنا نرى الأستاذ القرشي عبدالرحيم سلام يطل من شرفة العمارة المطلة على الشارع، ويدعونا للصعود لشرب الشاهي.. كان بفانيلة داخلية بيضاء وفوطة قطنية ملونة وكوفية بسيطة، وبيده كأس شاهي، وبين إصبعي يده اليسرى سيجارة مشتعلة.. شكرناه ومضينا في طريقنا.

تلك اللقطة لم تمتحِ من ذاكرتي مطلقًا بعد ثلت قرن، خصوصًا وهو يستند على عوارض الشرفة الحديدية التي تغطي الواجهة الدائرية للدور الثاني للمبنى المشيد بالطراز الهندي غالبًا منذ أربعينيات القرن الماضي.
كان القرشي يقضي وقتًا طويلًا في هذه الشرفة من وقت انكسار الشمس وانخفاض وهجها وحرارتها حتى وقت متأخر في المساء، يقرأ تارة، ويتأمل تارة، وربما يكتب وهو جالس على كرسيه الخشبي العتيق إن كان غير مرتبط بعمل، وكان في تلك الفترة تقريبًا بلا عمل بسبب حالة ما بعد الوحدة وانتقال المؤسسات إلى صنعاء، وفراغ مرحلة ما بعد الجاوي في اتحاد الأدباء ومجلة "الحكمة" التي بدأت بالتعثر وقتها، إلا بعض الأوقات الصباحية التي يقضيها في مقر صحيفة "14 أكتوبر"، حيث كان محسوبًا على قواها الوظيفية، ويذهب إليها للالتقاء بأصدقائه وزملائه من الصحفيين وعمال وفنيي المطبعة الذين ربطته بهم ولسنوات علاقة ود قوية.
صورة العمارة محترقة في 2015(منصات التواصل)
كان الذاهبون والآيبون عبر الشارع يألفون حضوره المميز بتلك الطلة، وخلال سنوات إقامته في تلك الشقة مع زوجته (صفية)، أقام علاقة حميمية مع المكان، وضحَّى من أجله بشقة أوسع وأحدث في مشروع الإسكان السعودي بالمعلا، حين رأى برسالة كتبها لوزير الإسكان وقتها، أن هناك من هو أحق بها منه.
ومن كثر ارتباطه بالمكان، سمى أحد دواوينه "شرفة الأحلام" التي كان يطل منها على عوالمه المستأنسة، ومما سطره في النص الذي حمل عنوان المجموعة:
سكنوا رواشين الفؤاد
وما نسوني
هم شرفة الأحلام
خلجان القصيدة
رواد أنغام التصاعد صوب
فجر الصدق
القرشي عبدالرحيم توفي في أغسطس 1998، وترك رفيقة عمره، صفية، تكابد الحياة وحيدة، حتى جاءت جائحة 2015 (الصالحوثية)، وانتقال الحرب إلى عدن، كانت العمارة التي سكنها القرشي بشرفتها، هي أول عمارة تتضرر في المعارك، وأول عمارة احترقت بالكامل تقريبًا.
معرض اليمن بعدسة( منصور القدسي)
بعد سنوات أعيد ترميم بعض أجزاء من العمارة، وخصوصًا الدور الأرضي الذي به المحلات التجارية.. وعاد من جديد "معرض اليمن" لفتح أبوابه بعد الترميم لبيع العود والبخور والعطور، إلى موضعه الدائم، غير أن الشرفة وحس صاحبها انطفآ، ولم يعودا يضمخان الوقت بعبقهما الشاهد على تبدلات الوقت في البلد المنكوب.

الكلمات الدلالية