تمهّل قليلاً... بيت هائل!!
طالعتنا بعض الأقلام والمنشورات الإعلامية في مختلف وسائل الاتصال الجماهيري والتواصل الاجتماعي، بمواقف متباينة يغلب عليها التعصب والشطط بعيدًا عن الموضوعية والرؤية المستنيرة أو التحليل الاقتصادي المنطقي العلمي في مسألة حساسة هامة، كونها تمس حياة الناس ومعيشتهم، والتي تقبع اليوم كعبء ثقيل لا بد من إزاحته من على كاهل المواطنين، وهي مشكلة اقتصادية صرفة يحكمها العوز إلى الحاجات الاستهلاكية من السلع والخدمات من جهة ندرة العملات الأجنبية الصعبة وحاجات الناس المتزايدة التواقة والمتطلعة إلى الإشباع بمحدودية مداخيلها المنخفضة، والتي فقدت قوة شرائها بفعل ركاكة الاقتصاد من جهة أخرى.
إن هذا الوضع في طريقه اليوم إلى التغير عبر السياسات الجديدة المتخذة والإجراءات الصارمة المرادفة، وينبغي أن تستمر الجهود في إحداث معالجات مدروسة مؤثرة لا متوترة... ونعلم أن للنجاح رؤوسً، وللفشل رأسًا واحدًا هي الدولة، ولا بد من حلول ترضي كل الأطراف.
إن هبوط الأسعار عملية بحاجة إلى وقت يمتد من أسبوع إلى أربعة أسابيع، ليتم فيه معالجة المخزون ومعرفة فوارق الأسعار للتجار أو التعويض، وذلك فقط في مقدرة الحكومة للتخفيف من عبئهم.
إن الرمي بإيقاع اللوم أو المسؤولية على جهة بحد ذاتها دون أخرى، كبيت هائل، سيترتب عليها آثار خطيرة، كما أن استخدام أساليب الجبرية بالاستقواء أو التعسف في استخدام السلطة يترك شرخًا كبيرًا في بنيان وفئات المجتمع.. وهذا ما حدث في الآونة الأخيرة عندما اتخذت السلطات المالية قرارات اقتصادية تقتضي تصحيح سعر صرف الريال اليمني بتبادلية الدولار وبقية العملات، مما أدى إلى استهداف تعزيز وتحسن مكانة العملة الوطنية، دون الأخذ بالتأثيرات الجانبية السلبية والتعويضات للمتضررين، ومازالت العملية الجراحية للصرف تأخذ مجراها، والأهم من ذلك قيام الدولة بشفط فائض العرض من العملة الوطنية سواء عن طريق الشراء للسيولة الزائدة من أيادي المضاربين بالعملات، وهو أمر مكلف، إلى جانب مراقبة تحركات أسعار الصرف لمدة أطول، وذلك للقضاء على الطفيليين، إلى أن يتحقق الاستقرار عند حد سعر صرف عادل يسمح لذوي الدخول المنخفضة بالحصول على المزيد أو أقصى منافع الإشباع من ريالاتهم. ومعنى ذلك استهلاك كميات أكبر من السلع والخدمات عما قبل التصحيح والتحسن.
إن قصة تحميل المسؤولية لبيت هائل وحدها، فيها لغط وغلط كبير... فالمجموعة لا أنزهها كليًا، ولها غلطات صغيرة، كما أن لها في الجانب الآخر إسهامات جمة وكبيرة، كونها توظف الآلاف من العاملين بشركاتها وأكبر أرباحهم وفقًا لمعلوماتي المؤكدة تأتي من الخارج. فمثلًا الأرباح التي يتحصلونها من مصر وحدها أكبر من خسارتهم الحالية باليمن، ولديهم شركات في بلدان كثيرة ناجحة.. أما من اليمن فمحتفظون فيها من أجل دورهم الاقتصادي والاجتماعي لدفع مرتبات الموظفين وإعالة الفقراء والأسر المعدمة. ومع ذلك يتعرضون اليوم بالداخل شمال وجنوب لابتزاز تعسفي وإعلامي ينبغي ألا يتغاضى البعض عنه.. فهم ليسوا الوحيدين في الاقتصاد اليمني، وليسوا سبب تدهوره أو تدهور رياله.
دعني أذكر من به صمم أن بيت هائل وما تقوم به من استثمارات وتوظيف لا يضاهيها أحد، وما تقدمه من خدمات وبناء للمدارس وإنفاق على العديد من الأسر ليس بالعمل اليسير، ولكنه صعب عسير يصب أولًا وأخيرًا في مصلحة الوطن والمواطنين.. ومع ذلك أكرر أنه بدون وجود الاستثمارات ورؤوس الأموال والاستقرار للعملة لا يمكن لأي بلد أن تنطلق فيه التنمية. فأخذ بيت هائل لأي موقف احترازي بسبب تراكم خبراتهم والوقوف في وجههم سيتضررون وستتوقف أعمالهم وتنتشر البطالة، مما سيضر بالعديد من العاملين والمستهلكين ليكونوا جميعًا ضحايا لعدم وجود السلع الاستهلاكية المنتجة بنوعيتها وجودتها ووفرتها وبأسعار فعلية غير مناسبة تضاف على أعباء المستهلكين فتمهل قليلًا... إنها فعلًا إشكالية كبرى.. والملاحظة الهامة هنا التي ينبغي التركيز عليها ورفع الوعي بها هي أن علينا أن نرفض ثقافة الكراهية لرجال الأعمال، لأنه بدونهم لا يمكن خلق وظائف جديدة، وإلا إذا أخذوا موقفًا فسيضر بالعديد من الناس والمستهلكين أيضًا سيكونون ضحايا لعدم وجود السلع ونوعها ونوعيتها ووفرتها وبأسعار فعلية غير مناسبة... إشكالية كبرى.
إن الاعتراف والتقدير لرجال الأعمال أمر هام لأنه بدونهم فمن المسلمات لا يمكن خلق وظائف، وستستمر البطالة التي تلقي بظلالها على حياة الناس وتعاستهم، ويتطلع من القلة أن تنفق عليهم فوق طاقتها، فالتاريخ في شحن البسطاء بالكراهية للتجار من شأنه أن يهز اقتصاد البلد ودفعه وسط البيئة المحبطة إلى الانهيار.
والحقيقة وهذا مربط الفرس أن الداعم الأساسي للاقتصاد وسعر الصرف هو الإنتاج للسلع والخدمات، بل وتصديرها لجلب العملات الصعبة. أما البدائل فمشقة عسيرة كاللجوء للاقتراض، وهي حالة صعبة جدًا في ما تشهده البلد من دمار وحروب ولأكثر من عشر سنوات، أو طلب المساعدات من الدول الأخرى الاستمرار في دعم الاقتصاد بمشاريع إنتاجية تمكن من التوظيف ويكتب لها المستدامة. أما الوجه الآخر فهو إدارتها إلى الغير تحت مطرقة الرحمة ونداء الحرمان والتدخل بالسيادة، مما يفرغ الدولة من مفهومها ووظائفها.
إن المشكلة الاقتصادية المالية بدأت قبل 6 سنوات بتعيين من لا كفاءة لهم في إدارة أركان الاقتصاد، وبخاصة البنك المركزي الذي قام بطباعة عملة لم تكن تتساوى مع ما ينتج من سلع وخدمات في البلد، لكي تقوم الدولة بتمويل أنشطتها ومشاريعها، وهو ما يعرف بالتموين بالعجز لأكثر من تريليون ريال ذهبت معظمها كمرتبات للعاملين بالدولة ونفقاتها، مما أدى إلى التضخم وارتفاع الأسعار في ظل ندرة أرصدة تمويل المشتريات الأساسية من السلع الغذائية الأساسية.
كان للتمويل بالعجز دور حاسم في إذكاء التضخم وتدهور العملة في وضع لا يحمد عليه، وهو توقف الصادرات وعدم توريد متحصلات الإيرادات إلى خزينة الدولة ولسنين. والحقيقة أن معظم من أسهموا بالحملات على التجار لا يعرفون الدور الريادي الجبار الذي يلعبه القطاع الخاص، ليس في اليمن فحسب، ولكن في كل بلدان العالم. ومشكلة اليمن واليمنيين أننا نعيش على الهامش، ونتجنب الخوض في خلفيات الأمور ومآلاتها، ويجدون من السهولة بمكان اتباع أساليب عتيقة يتبعون بها سياسة التعبئة والتثوير الجماهيري، وليس التنوير التي ستودي إلى عواقب وخيمة.
لا للثقافة الكراهية، لأنك بها تدمر مستقبل الأجيال... فتمهل قليلًا لأنك في حضرة بيت هائل.