قصة وجه أبي(٢)
في القرية لا كهرباء، لا إنترنت، لا تلفاز، لم نكن نسمع إلا من الناس: هناك قصف، هناك قتلى، هناك حرب أكلت الأخضر واليابس...
مرت الأسابيع الأولى بصعوبة...
وبدأت المتاعب معنا، وعمي يطلب منا التحمل، كان علينا الذهاب لجلب الماء من بئر بعيدة، أمي وعمتي لأجل التخفيف من استهلاك الغاز خرجتا للبحث عن الحطب ليطبخا عليه، لأن الغاز شبه معدوم، ولا يستطيعون إدخال أسطوانات الغاز إلى القرية بسبب الحصار على المدينة.
بنات عمي مروى ونهى لم يستطعن التأقلم مع جو القرية، ومثلهن عبدالله، تقول مروى: "بعض الأهالي ينظروا لنا بأننا دخلاء عليهم، وأننا جئنا ننافسهم على الخدمات"، وتقول نهى: "هناك نساء عند البئر يحكين أن النازحين شكلوا أزمة بالقرية، والماء في الآبار صار ما يكفي، وهم سبب غلاء الأسعار أيضًا. وكل يوم يسمعونا كلام جارح، وأنه علينا أن نعود من حيث جئنا".
صرنا نعيش واقعًا جديدًا بكل ما فيه، وعلينا التأقلم معه، فلا حيلة لنا، لم نسمع صوت أبي كما وعدنا، التغطية ضعيفة، إذا اتصل لا يتجاوز اتصاله كلمتين لأمي يطمئن علينا، وينقطع الاتصال، كان يقتلنا الاشتياق له ولصوته، وأمي تطمئننا عليه وتقول: "سوف يسافر عندنا قريب".
في أحد اتصالات أبي لأمي همست له على استحياء أن الدورة الشهرية لم تأتها بعد السفر، قالت أمي إنه كان سعيدًا بالخبر، وقال: "بإذن الله يكون الجنين بنت مثل جنى الحلوة"، ما إن سمعت جنى هذا الكلام حتى أخذت تتقفز في الغرفة وهي مسرورة بأنه سيكون لها أخت صغيرة تلعب معها.
3
مرت ثلاثة أشهر ولم يتمكن أبي من السفر، وظل في عمله.
لم يخبرنا أنه انتقل لمكان آخر، انقطع اتصاله بنا، كان عمي يحاول التواصل مع زملائه، لا أحد يعلم مكانه، أو أنهم لا يريدون إخباره.
أجواء القرية حزينة، الشهداء في تزايد، والناس في ترقب وخوف من توسع رقعة الحرب.
انشغلنا بالبحث عن مقومات العيش الجديد الذي فرض علينا، المواد الغذائية لا توجد في الأسواق إلا من بعض الأساسيات، والتي أسعارها صارت مضاعفة، كان علينا أن نرضى بالموجود، فربما حالنا أفضل من حال بعض الأسر التي لا تجد ما يسد رمقها، فالوضع كارثي، وحالة الناس تسوء يومًا وراء يوم.
قسمنا الأدوار بيننا نحن وبنات عمي، من يساعد في جلب الماء، ومن يساعد في جلب الحطب مع أمي وعمتي، وعلى هذا تأقلمنا، وتعرفنا على أصدقاء وناس جديدة، وبدأنا نتكيف معهم.
بدأت المدارس تفتح أبوابها لعام دراسي جديد، قرر عمي أن نلتحق بمدرسة القرية، فالحرب مستمرة، والعودة للمدينة قد تستغرق وقتًا، فالجبهات مازالت مشتعلة، ولا أحد يعرف إلى متى.
مدير المدرسة ومجلس الآباء اتخذوا قرارًا بالسماح للطلاب النازحين بمواصلة الدراسة ولو بدون ملفات، إلى أن تنفرج الأمور، ويقدموا وثائقهم لاعتمادها، وكانت هذه من أهم التسهيلات التي قدموها في القرية للأسر النازحة والهاربة من جحيم الحرب.
اتفق عمي مع الشباب على عمل مبادرة، وبمساعدة المغتربين وبعض التجار، من أجل توفير مستلزمات المدرسة للطلاب النازحين وأولاد الشهداء والمعدمين في القرية، فسهل ذلك على الكثير من الطلاب الالتحاق بالمدرسة.
4
ذات يوم عاد عمي إلى البيت، لا يدري بأية كلمات يبدأ حديثه، ما إن جلس وهو صامت، سألته أمي: "ماذا عندك يا إبراهيم؟ صورتك اليوم مش طبيعية، ماذا تخبئ علينا؟ أنا قلبي مقبوض ومحمد لم يتصل بنا، أنا قلقة عليه".
تسمع أمي أصوات لنساء أمام البيت، تتبادل النظرات مع عمتي، ولحظتها تدخل جنى تجري: "ماما ماما نساء كثير يسألوا عليك".
تستغرب أمي: "يسألوا عليّ أنا؟".
قربت زوجة عمي وجلست جنب أمي في ذهول...
عمي كانت عيناه تمتلئان بالدموع وهو يدق رأسه بالجدار، ويقول: "محمد أخي"، ثم ينقطع صوته وهو يخبط على رأسه كأنه فقد عقله.
عبدالله كان خارج البيت، سمع مجموعة من الأهالي يذكرون اسم أبي ويتهامسون، شعر أن هناك أمرًا يخفونه عنه، رجع البيت مسرعًا وهو يسأل: "أبي ماذا به؟ أبي ماله يا عم؟".
أنا تسمرت في مكاني، أمي نهضت من مكانها، وأمسكت عمي من كتفيه، وكانت تهزره بأقوى قوتها كالمجنونة: "ماذا فيه محمد؟ احكي اتكلم يا إبراهيم، محمد زوجي أيش حصل له؟".
نطق عمي وهو يتلعثم: "محمد أخي ارتقى إلى ربه شهيدًا".
صاحت أمي بصوت هز البيت، قفزت أنا باتجاه عمي: "أنت تكذب، أنت تكذب يا عم، أبي ما فيه شيء..".
أخذ عمي يمسك بي ويضمني لحضنه وهو يقول: "حق الله، حق الله يا علي، ولا نعترض على قضاء الله وقدره".
عمي كان يحضننا أنا وعبدالله، ولا يدري ماذا يفعل، فهو الآخر متعلق بأبي، فبعد موت جدي وجدتي لم يكن له أحد سواه.
أمي فقدت وعيها ووقعت على الأرض، والنساء تجمعن حولها، أسرعنا أنا وعبدالله ناحيتها نصرخ: "أمي، أمي".
حاولنا رفعها من الأرض ورش الماء عليها، أفاقت وهي تصرخ: "محمد، محمد، أين محمد؟".
ارتمينا في حضنها ونحن نبكي، لم نستوعب الصدمة كلنا.
حاولت أن أستجمع قواي، وسألت عمي: "من أخبرك بهذا ربما يكذب".
قال: "أصحابه تواصلوا معي، وقالوا إن قذيفة أصابته ومجموعة من زملائه، وطلبوا نروح نستلم الجثمان"
.5
قرر عمي أن أسافر معه لنستلم جثمان أبي، على أن يبقى عبدالله مع أمي لينتبه لها، فحالتها صعبة، فهي تفيق من غيبوبة لتدخل بأخرى، لم تستوعب صدمة ما حصل.
أمي أصرت إلا أن ترافقنا ولن تمكث لحظة بالقرية وستذهب بنفسها تتأكد، كانت تبكي وتردد: "أنتم تكذبون عليَّ، محمد بخير، محمد لم يحصل له شيء".
وصلنا إلى المستشفى، أحد الأطباء همس لعمي أنه يفضل ألا تراه زوجته وأولاده، هذا أفضل لهم.
حاول عمي بكل الطرق ومعه خالي وكثير من الأهل، أن يمنعونا من رؤية أبي، لكن أمي أصرت على رؤيته.
خالي يقول لأمي: "يا أختي احمدي الله وخليك قوية ولا تفجعي أولادك، وارجعوا خلاص، محمد أصيب ببعض التشوهات في جسمه نتيجة الشظايا، ومش تمام تودعوه بتلك الصورة".
أمي تصرخ وتبكي: "محمد زوجي وحبيبي وتاج رأسي، اتركوني أراه، أودعه، أملأ عيني منه، لا تحرموني منه، حرام عليكم، حرام عليكم".
أبعدني خالي قليلًا عن أمي، وقال: "لازم أمك وإخوانك ما يروا الجثة، يا ابني قدر الله احمدوه واشكروه، أبوكم شهيد للجنة بإذن الله، دعوا صورته بين عيونكم تلك التي عرفتموه فيها".
ترجيت خالي أن ألقي نظرة الوداع على أبي وحدي لعلي أقنع أمي.
كنت أسير نحو ثلاجة الموتى بخطى ثقيلة كأني أجر أطنانًا من الحديد، أكاد أن أقع على الأرض، لماذا يرفضون مشاهدتنا لأبي وإلقاء نظرة الوداع عليه؟ كثيرة هي الأفكار التي كانت تراود عقلي، أنا أضعف من على الأرض في هذه اللحظة، هل معقول هو أبي الذي سوف أشاهده، ربما شخص آخر، أبي لم يمت، أبي حي، أبي موجود.
رفع أحد العاملين الغطاء عن الجثمان، وخالي يمسك بي خائفًا من أن أسقط مغشيًا عليَّ، وكانت الصدمة التي لم أتوقعها أبدًا، لا وجه لأبي، سألت: "أين وجه أبي؟ أين ابتسامة أبي؟ هذا ليس أبي، ليس أبي". حاول خالي تهدئتي، وأنا أصيح: "كذابين، هذا ليس أبي، ليس أبي".
خالي يقول: "صلِّ على النبي يا علي، هذا قدر الله، أبوك شهيد للجنة بإذن الله، وكلنا للموت".
تذكرت، لأبي شامة على كتفه، حاولت ألملم شتاتي، لا أدرى كيف تملكتني قوة وأنا في عز ضعفي وانهياري، عندما رفعت الغطاء عن الجثمان الذي أمامي وأنا أفكر من هذا ولمن تكون هذه الجثة، لا ليس أبي، تحسست كتفه الممتلئة بالجروح، لألمح شامة أبي، صرخت وصرخت: "أبي، أبي، أبي".
وقعت على الأرض منهارًا، أخبط فيها بكلتا يديَّ بكل ما أوتيت من قوة، وأدق رأسي في الجدار من دون أن أشعر: "مستحيل، مستحيل"، رفعوني وأخرجوني وحاولوا تهدئتي.
خالي والذين معه: "الآن كيف لأمك وإخوتك مشاهدته هكذا؟ أقنعهم يرجعوا لنكمل إجراءات الخروج والدفن، الدنيا حامية والقصف على المدينة من كل اتجاه، لنحافظ على بقية الأرواح".
ذهبت لأمي بعقل شارد أنا الحي الميت، أنا من أنا؟ ماذا أحكي لأمي؟ كيف أكذب عليها؟
"لأجلي يا أمي دعينا نرجع"، رفضت أمي، أخبرتها أن جسد أبي مغطى بالدماء والتراب، لا شيء يبان منه، ولن تعرفه، لذا الأفضل ألا تراه.
سألتني: "وكيف عرفت أنت أنه أبوك؟"، بكيت وارتميت في حضنها وأنا أنطق بلسان ثقيلة: "الشامة التي في كتفه".
كنت أبكي بلا إدراك، لا أصدق أنني أحكي عن أبي، وأن أبي رحل ولن نراه.
قفز عبدالله خلسة نحو ثلاجة الموتى، تمكن بمساعدة أحدهم هناك من مشاهدة أبي، صرخ: "أين وجه أبي؟ أين وجه أبي؟".
رفع الغطاء عن كتفه ليتأكد مثلي، لكنه كان كالمجنون جاء يصرخ: "أبي بدون وجه، قسمًا لأنتقم منهم، قسمًا لن يذهب دم أبي هدرًا".
عمر سمع كلام عبدالله (أبي لا وجه له)، فتسمر في حضن أمي باكيًا: "أبي، أبي، أبي".
أخذ عمي عمر، وذهبت أنا وخالي مع أمي.
الوداع الأخير لأبي، بكت أمي فوق جثمانه بكاء حارًا، كانت تهمس له: "سبقك وجهك يا محمد يا صاحب أجمل وجه وأجمل ابتسامة، ويا صاحب أصدق لسان، وجهك الوضاء سبقك للجنة يا روحي وعمري، ستظل في عيني صاحب أجمل وجه، في ودائع الله أنت يا دنيتي كلها".
رفعت الغطاء تتحسس بقية جسده، هناك أجزاء تناثرت منه، وجمعت حوله، تأكدت أنه رحل، رحل شهيدًا، رأته في أجمل حلة، عريس يزف للجنة، خرجت تحمل إيمانًا قويًا بقضاء الله وقدره، وهي تذرف دموعها كالمطر الغزير، وتبحث عنا، أخذتنا لحضنها وهي تضمنا وتقول: "ردوا روحي يا روح أبوكم، ردوا روحي، لملموا شتات فؤادي، لا شيء بعد أبيكم يستحق العيش"، كنا نبكي غير مستوعبين ما حصل، لا ندري أي الكلمات يمكنها مواساة أمي، فالذي استشهد هو دنياها كلها، حبها وحياتها، نبض قلبها ونور عينيها، قلت لها بصوت مليء بالوجع: "لأجلنا يا أمي تستحقين العيش، لأجلنا يا أمي كوني قوية".
أصروا علينا الرجوع قبل أية مواجهات، عادت أمي إلى القرية وقد استودعت الله أمانته، وبعد أن ودعت أبي الوداع الأخير.
سمعت عمر يحكي بخوف لجنى التي ظلت مع عمتي، ولم تعرف بسفرنا: "بابا ما في معه وجه، بابا راح عند الله، طلع السماء، عبدالله قال بابا ما في معه وجه".
جنى تبكي، ولا تعرف ماذا يعني هذا الكلام، فقط أن بابا سوف يتأخر ولن يسافر الآن، وسألت ببراة الطفولة: "كيف ما في مع بابا وجه، يعني مثل ما نرسم بالقلم وجه فيه عيون وأنف وفم ونمحيه ونرسم ثاني...".