صنعاء 19C امطار خفيفة

الخطاط شكري.. العلامة التي لا تشبه غيرها

الخطاط شكري.. العلامة التي لا تشبه غيرها
محمد علي شكري (منصات التواصل)

لا يمكن الحديث عن تفاصيل السوق المركزي، كما ارتسم بذاكرتي في السبعينيات ومطلع الثمانينيات، المطرز بالوجوه، دون الحديث عن الخطاط "شكري". فأنا لم أعد أتذكر "علي شكري زيوار" الأب، وهو المؤسس الأول لمحل الخط في الشارع الخلفي للسوق، بالقرب من سينما "بلقيس"، لكني أتذكر جيدًا ابنه "محمد علي شكري"، لاعب نادي الطليعة المميز الأنيق الوسيم، ورئيسه لاحقًا، وهو الذي كان يدير المحل أثناء لعبه للنادي، وبعد اعتزاله. أتذكر اللافتات القماشية الزرقاء والحمراء التي كانت تعلق على الجدران القريبة، ليجف حبرها، قبل نقلها لتعليقها في تقاطعات الشوارع، وعلى واجهات المؤسسات الرسمية، وفي مداخل المدينة، مبشّرة بقدوم الأعياد والمناسبات أو الترحيب بالضيوف.

كان الخطاطون الذين يعملون معه في المناسبات الكبيرة، يستغلون الأرصفة الأسمنتية بين العمارات والبيوت، ويفرشون عليها الأقمشة الملونة، ثم بفراشي عريضة يغمسونها في عُلب الرنج الفضي والأبيض والأحمر، يقومون بكتابة الشعارات والعبارات التي ينقلونها من دفاتر وأوراق أمامهم. أي خطأ كان ممنوعًا، لهذا كانوا يكتبون العبارات بحذر بعد تهجي الكلمات وتشكيلها، وإلا خربت الأقمشة، وكنت ألحظ بعضهم يقومون بإزالة الأخطاء المتداركة الصغيرة بمادة فعالة مزيلة للرنج، ثم يعيدون تصحيح الخطأ بعد طلي البقعة المشوهة بلون القماش نفسه بكتابة الكلمة أو الحرف الصحيح، وكانت هذه العملية، وقبلها رسم الكلمات، تشدني طويلًا، وكنت حينما أخلو بنفسي في الدكان أقوم بتقليد خطهم على ورق الحليب المقوى. ذات الخطاطين كنا كثيرًا ما نراهم على السلالم وهم يخطُّون لوحات المحلات، أو يركّبون لوحاتها الخشبية المزينة بالنيون واللمبات الملونة على الواجهات، بمساعدة عمال مهَرة.
محمد علي شكري يافعاً( منصات التواصل)
معظم محلات السوق ومحيطه ومحلات كثيرة في المدينة، كانت توقّع لوحاتها الخشبية المعلقة في واجهاتها، وكذا المكتوبة على السواتر الحديدية التي تربط ظلف الأبواب من الأمام، باسمه المميز؛ "شكري". كنا نحن أطفال المحيط، نتباهى بخطه وبمجاورته، فقد كان الفارس الأهم بمجاله، ولا ينافسه إلا خطاط كان يوقع باسم "الشميري"، وقبله كان هناك خطاط يوقع باسم "نوفل".
ينحدر "محمد علي شكري" من أسرة فنية معروفة، فجده لأبيه "شكري زيوار" كان خطاطًا ونحّاتًا مشهورًا. وهو، كما تقول بعض الروايات، الذي خطّ المصحف في جامع الملك "المظفر"، في مدينة تعز. كما أن والده "علي شكري" هو الذي قام بتزيين قباب جامع الملك "المظفر"، ووضع التصاميم لبعض العملات اليمنية في عصره، مثل عملة "البُقْشَة" النحاسية الحمراء، التي تم تداولها لفترة من الزمن.
يقول عبدالرحمن بجاش: «أينما تذهب بنظرك، فثمة "شكري" الأنيق؛ خطٌّ يجمل عينيك بأجمل خط. "شكري" احتل تعز أجمل احتلال، ولفترة هي أجمل مراحل عمرنا، ضُرِبَت أيادينا بعصي آبائنا؛ إصرارًا على أن يكون خطّنا مثل "شكري"! وكيف لنا أن نكون مثله، والمسألة تتعلق بالموهبة؟!».
قيل إنه استدعي إلى صنعاء، منتصف الستينيات، ليرسم شعارات القوة الجوية على طائراتها المقاتلة، وهو لم يتخطَّ الخامسة عشرة، وتاليًا قام بتنفيذ عدد من المجسمات العسكرية للقوات المسلحة، بما في ذلك تمثال الأستاذ محمد محمود الزبيري، وتمثال الرئيس عبدالرحمن الإرياني، وتمثال الجندي المجهول، ولاحقًا كانت عربات الاحتفالات في أعياد الثورة والعمال تحمل بعض مجسماته الخشبية والإسفنجية، وهي تصعد العقبة في طريقها لميدان الشهداء في العُرْضي.
صار محل الخطاط والرسام "شكري" الصغير، محلًّا واسعًا في الجوار منذ منتصف الثمانينيات، قبل أن يصير مؤسسة إعلانية كبيرة، لها أجهزتها ومعداتها التقنية، ولها فرعها الكبير في عدن، ومن ثم صنعاء. استبدلت الأنامل الذهبية للفنان وصحبه، وخشبهم وإسفنجهم ولوحاتهم القماشية الملونة، بالجرافكس وتقنيات الخط الإلكتروني واللوحات الحرارية والبَنَر والبلاستيك المقوى. الفنان "محمد علي شكري" لم يزل بأناقته التي عهدتها به قبل أكثر من أربعين عامًا، ولم يزل جسده النحيل يحمل الكثير من وسامته الشابة ورشاقته.
من كتاب "الوقت بخطوات عجولة" قيد الطبع.

الكلمات الدلالية