الريال وسعر الصرف والمواطن
تصريح:
جاء تصريح الأخ محافظ البنك المركزي لافتًا ومثيرًا للانتباه، إذ كشف عن وجود أكثر من 147 جهة إيرادية سيادية في المحافظات المحررة لا تورد إيراداتها إلى الخزينة العامة للدولة. وهو تصريح صادم، يشير إلى أن تلك الأموال تتجه إلى قنوات أخرى، حيث تذهب إلى حسابات خاصة ولا تدخل ضمن الميزانية العامة. وبذلك، تصبح خارج إطار الرقابة المالية للدولة. ومن البديهي أن عملية تحصيل هذه الإيرادات يجب أن تتم عبر أجهزة وزارة المالية، أولًا وأخيرًا.
تسرّب الريال إلى السوق:
حين تتسرب هذه الإيرادات إلى قنوات تضر بالاقتصاد الوطني وتؤثر سلبًا على حياة المواطن، فإننا نكون أمام معضلة حقيقية. ذلك أن هذا التسرب يسهم في تأجيج التضخم وفقدان العملة الوطنية لقيمتها الشرائية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية. وتزداد خطورة الأمر إذا استُخدمت هذه الأموال في المضاربة على أسعار الصرف، أو إذا وُظفت في امتصاص العملات الصعبة من السوق، أو حتى إذا ضُخت في محلات الصرافة، مما يزيد من المعروض من الريال ويؤدي إلى تدهور قيمته. ويعود ذلك إلى أن هذه الكتلة النقدية لا تقابلها سلع أو خدمات حقيقية في السوق، وبالتالي تُفقد العملة الوطنية توازنها.
الأخطر من كل ذلك أن بعض المتنفذين ممن يتحكمون في هذه الإيرادات، فتحوا - بشكل مباشر أو غير مباشر - محلات صرافة، مستفيدين من نفوذهم، بل إن هناك مئات من الأفراد يمارسون أعمال الصرافة من منازلهم دون ترخيص، مما أدى إلى نشوء سوق سوداء موازية، تبتلع العملات الصعبة وتشجع على تداول الريال المتدفق يوميًا إلى السوق.
تُدار عمليات الصرافة غير القانونية هذه بسهولة عبر الهواتف، وتُنقل الأموال علنًا بين الصرافين المعتمدين والدخلاء على المهنة، محتمين بأطراف ذات نفوذ وسلطة.
البنك المركزي والريال:
أمام هذا الواقع، يجد البنك المركزي نفسه عاجزًا عن السيطرة على السوق، ولا يملك الأدوات الكافية للتأثير على عرض النقود أو تنظيم تداول العملة الوطنية. فالصرافون غير المرخصين الذين يعملون من منازلهم يتحكمون بكميات كبيرة من الريال، ويساهمون في زيادة المعروض النقدي، ما يؤدي إلى تضخم متسارع وانهيار في قيمة العملة. ويعاني المواطن، خصوصًا من ذوي الدخل المحدود والمتوسط، من تقلص قدرته الشرائية وتدهور سلة استهلاكه المعتادة، بينما يزداد القلق من مستقبل غامض لريال كان يعادل 215 ريالًا للدولار في 2015، وها هو اليوم يبلغ 2750 ريالًا.
المشكلة الأساسية أن الرواتب والدخول لم تشهد أي زيادة تُذكر، في حين تراجعت قيمة الريال بشكل متسارع، ولم يعد يُعد مخزنًا للقيمة أو وسيلة آمنة للادخار، ما دفع المواطنين إلى التخلص منه عبر شراء العملات الصعبة، أو المضاربة في العقارات، أو اكتناز الذهب، أو تهريب الأموال إلى الخارج بعد تحويلها إلى عملات أجنبية، سواء بطرق رسمية أو غير رسمية.
هذا الوضع يُفقد البنك المركزي أدواته النقدية الفعالة، مثل التحكم في سعر الفائدة، أو تفعيل عمليات السوق المفتوحة، أو استخدام أدوات مثل الاحتياطي القانوني وسعر الخصم، وذلك بسبب الشح الشديد في العملة الوطنية المتاحة. لذا، يصبح تدخل البنك مقتصرًا على تمويل الاحتياجات الأساسية مثل شراء الغذاء، دون قدرة حقيقية على ضبط السوق أو التحكم بسعر الصرف.
التصدير وتقوية الريال:
في ظل هذا الوضع، فإن التحكم في سعر الصرف لن يجدي نفعًا ما لم تتوفر مصادر حقيقية للعملات الأجنبية. فالحل لا يكمن في التدخلات المباشرة وحدها، بل في وجود صادرات حقيقية، وعوائد مقومة بالدولار، مثل تصدير السلع والخدمات. أما النفط، رغم أهميته، فهو محدود ويتم إنتاجه محليًا ولا يشكل مصدرًا حقيقيًا للعملات الصعبة، إذ يُستهلك محليًا، تمامًا كما هو حال القات.
لذلك، لا بد من تأمين مصادر خارجية للعملات الأجنبية تساعد على امتصاص السيولة الزائدة من السوق، وتُسهم في تخفيف التضخم، ودعم قيمة العملة الوطنية. وتقوية الريال لا تتطلب سوى الشفافية، والنزاهة، وسياسات اقتصادية صارمة، وإرادة سياسية جادة وفاعلة.