صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن.. حين تتشابهُ أخطاء الماضي والحاضر

منذ اندلاع الحرب في اليمن، ظلّت الأسئلة الجوهرية حول جذور الصراع وطبيعة الأطراف الفاعلة ومستقبل الدولة مؤجلة أو مغيّبة خلف ضجيج الجبهات وخطابات التخوين. ومع امتداد أمد الحرب، أصبحت السرديات المتضادة جزءًا من أزمة هوية وطنية تبحث عن تعريف جديد، في بلد تتنازعه الجغرافيا والمصالح والهويات الفرعية.

1. التهميش وصعود الحوثيين: من رد الفعل إلى الفعل

تعود بدايات جماعة الحوثي إلى مطلع الألفية، كرد فعل على تهميش سياسي وثقافي، لا سيما تجاه الزيدية ومناطق شمال الشمال، وتحديدًا صعدة. اغتيال مؤسس الحركة حسين بدر الدين الحوثي عام 2004 على يد قوات الدولة بقيادة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، مثّل لحظة مفصلية في تكوين الوعي المقاوم للجماعة.
لكن المفارقة أن جماعة خرجت من مظلومية واضحة، تحوّلت لاحقًا إلى طرف يمارس الممارسات نفسها التي ثارت ضدها. اليوم، تتهم الجماعة بانتهاكات واسعة في حق المدنيين، وقمع الحريات، وتجنيد الأطفال، وإقصاء كل من لا ينسجم مع مشروعها الأيديولوجي.

2. النظام السابق واحتكار السلطة: التمهيد لثورة معطوبة

قبل 2011، كان النظام اليمني يُدار عبر تحالف غير مكتوب بين القبيلة والعسكر والدين، مع هيمنة واضحة لقبائل حاشد ومراكز قوى في تعز وإب وصنعاء. هذه التركيبة ساهمت في تغذية الشعور بالتهميش في مناطق مثل صعدة، الجنوب، والمهرة.
ثورة فبراير 2011 مثلت فرصة تاريخية لإعادة هيكلة الدولة، وكان مؤتمر الحوار الوطني محطة نادرة لإنتاج وثيقة توافقية. لكن التدخلات الإقليمية، والتعثر في تنفيذ المخرجات، إلى جانب انقلاب الحوثيين في 2014، كلها عوامل ساهمت في وأد المشروع الوطني الوليد.

3. الدائرة المفرغة: من الضحية إلى الجلاد

السؤال الذي يُطرح كثيرًا: "هل يُطلب من الحوثي أن يسالم من قاتله لعشرين عامًا؟" يبدو وجيهًا من منظور إنساني، لكنه خطر سياسيًا. لأن بناء الدولة لا يمكن أن يقوم على مبدأ "الثأر السياسي"، بل على أساس العدالة الانتقالية والمصالحة.
مع استمرار الحوثيين في توسيع دائرة القمع، ورفضهم تسليم السلاح أو الدخول في تسوية سياسية شاملة، يتحوّل سؤال الشرعية إلى نقاش مفتوح لا يُحسم بالسلاح بل بالتوافق الوطني.

4. بين الحوثي والإصلاح: استقطاب يُقصي اليمنيين

في الخطاب العام، غالبًا ما يتم تقديم جماعة الحوثي كقوة "منضبطة" ومتماسكة مقارنة بالإصلاح (الإخوان المسلمين)، الذين يُتهمون بالفساد والارتباط بأجندات خارجية. لكن الحقيقة أن الطرفين -كلًا بطريقته- تورطا في ممارسات إقصائية، وانتهاكات حقوقية، وخلق منظومات ولاء عابرة لمفهوم الدولة.
لا يمكن تبرير سلوك جماعة بسلوك جماعة أخرى. ولا يُبنى وطن على خطاب المقارنة في الانتهاك، بل على مشروع جامع يُنهي عقلية "كما تُدان تدين".

5. ما الحل؟ خارطة الطريق الممكنة

رغم الانقسامات العميقة، لا يزال بالإمكان إعادة بناء اليمن، إن توفرت إرادة حقيقية من الداخل أولاً، ومن المجتمع الدولي ثانيًا. ولعل أبرز ملامح الحل تكمن في:
عدالة انتقالية شاملة تعترف بكل الانتهاكات دون انتقاء.
إخراج السلاح من السياسة، وبناء جيش وطني لا يتبع جماعة أو حزبًا.
حوار وطني جامع يتجاوز القوى التقليدية ويمنح تمثيلًا حقيقيًا للمرأة والشباب والمهمّشين.
إدارة موارد الدولة بشكل شفاف، بما يضمن تنمية عادلة لكل المناطق.
إنهاء التدخلات الخارجية التي أسهمت في إطالة أمد الحرب وتعقيد مسارات الحل.

ختامًا: اليمن ليس جغرافيا متناحرة، بل مشروع وطن مؤجل

لقد أخطأ الجميع. لا أحد فوق النقد أو المحاسبة. لكن الخطوة الأولى نحو الخروج من النفق تبدأ بالاعتراف بهذه الحقيقة، وتجاوز سرديات "التخوين" و"الاستحقاق التاريخي"، نحو بناء دولة يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، مهما اختلفت مناطقهم أو معتقداتهم.

الكلمات الدلالية