صنعاء 19C امطار خفيفة

حين يضيق الوطن بأبنائه: النهاري نموذجًا

بجهلٍ سياسي فادح، ساهمت تصرفاتهم الرعناء في تحويل الصحفي الرصين، والمحلل العميق للشأن اليمني، الأستاذ فؤاد النهاري، من ناقد ناصح إلى معارض شرس. بدأ الأمر بمضايقته ومنع الترخيص للمشاريع والأنشطة المدنية التي كان ينفذها من خلال "مركز أبجد للدراسات والتنمية"، التي دفعت للتوقف الكلي لنشاط المركز.

ولأن فؤاد النهاري خُلق للمعارضة، كان الصوت الأقوى أثرًا في التعبير عن رفضه لسياسات الجماعة التي يعتبرها "هوجاء وغبية وكارثية"، لذلك نال حظًا وافرًا من التهديدات والمضايقات المباشرة وغير المباشرة، التي وصلت حد اعتقاله العام الماضي بلا جريرة ولا تهمة سوى "وطنيته ورفضه لكل مظاهر الظلم والتعسف وتسخير الوظيفة العامة لصالح الجماعة والاستئثار بالثروة والسلطة"، حد تعبيره.
فؤاد النهاري( منصات التواصل)
والصحفي النهاري، كان يرأس دائرة الإعلام والعلاقات في جامعة ذمار، وأسس بإمكانات صفرية، إعلامًا جامعيًا رصينًا وهوية بصرية فريدة للجامعة كأول جامعة حكومية، لكن كانت الرغبة جامحة في تغييره، خاصة وهو الشخص الوحيد الذي كان لايزال يؤدي واجبه الوظيفي دون أن ينخرط في صفوف الجماعة، ودون أن يحضر أي نشاط تعبوي أو ما تسمى الدورات الثقافية.
بعد خروجه من المعتقل الذي يصفه "بالتعسفي والظالم" توالت التهديدات، لكن الأخطر كان ذلك التهديد الذي تلقاه بالتصفية والسحل، حتى لم يبقَ أمامه سوى خيار واحد: مغادرة مناطق سيطرة سلطة صنعاء. وهناك، وجد أفقًا أكثر اتساعًا، أتاح له التنفّس بعد سنوات من القمع والصمت. في ما يشبه البوح، قال لي ذات اتصال عبر أحد التطبيقات الإلكترونية: "أحسست بالأمان وهدوء البال".
يقول: لقد صبرت على أذى الحوثيين عشرا عجاف، أغلقوا مركزي، صادروا أرضي وأرض زملائي التي صرفها لنا الرئيس صالح، هددوني كثيرًا، وقطعوا مصادر رزقي، وأوقفوا نصف راتبي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، سجنوني، لم يكتفوا بهذا! هددني أحدهم بتقديم رأسي هدية لزعيمهم، إذا لم أسكت. ثمن الكلمة الحرة الصادقة غالٍ وعظيم.
النهاري صديقي، وأعرفه جيدًا، فهو ذلك : الشخص الودود، و المثقف السياسي الحصيف الذي يفهم ويرى متعرجات السياسة ومتغيراتها وزواياها، لم أره يومًا يضمر عداء لأية جهة أو فرد أو جماعة رغم قناعاته الشخصية التي آمن بها يومًا. ينطلق في كتاباته الصحفية والسياسية الناقدة من قاعدة حرصه على المصلحة الوطنية العامة، لا يتقيد بأيديولوجية معينة، ولا يؤمن بجهوية، أو عرقية.
كان النهاري -ولايزال- يعيش ظروفا صعبة جدًا كغيره من غالبية الشعب، كنت مطلعًا على معظم تفاصيل تلك الظروف والمعاناة التي يعيشها، والتي ظل يتحملها لعقد من الزمن بكل صبر وجلد وكبرياء وعزة نفس لا تضاهى.
أتذكر أننا كنا ذات يوم نتجاذب أطراف الحديث معًا في مجلس المقيل بمنزله الذي يسكنه بالإيجار، ونناقش حالة سلطة صنعاء، السلطة التي تتعامل بأساليب غير معتادة أو بنهج يتسم بالغرابة والارتباك، وعن كيفية تعاطيها مع ظروف المواطن القاسية، وأسباب الفساد واستفحاله وتوحشه بصورة غير مسبوقة، والتضييق على الناس وتخويفهم وما إلى ذلك من ممارسات غير مسؤولة.
كانت وجهة نظري، يومها، تختلف عن قناعات صديقي فؤاد بدرجة لا بأس بها. قلت له: من غير المعقول أن تتعامل أية سلطة في العالم مع شعبها بهذه الأساليب القاسية والاستفزازية، وهي في أمسّ الحاجة إلى كسب تأييده وولائه، خاصةً وهي تزعم أنها تواجه عدوانًا خارجيًا. هذا السلوك لا يفسَّر إلا بواحد من احتمالين: إما أن الجماعة الحاكمة مخترقة، أو أنها فقدت السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة، وربما كان لبقاء عدد كبير من كوادر النظام السابق في مواقعهم دور في ذلك.
أضفتُ قائلًا: علينا ألا ننسى أن الحوثيين لم يخرجوا من كوكب آخر، إنهم يمنيون في نهاية المطاف، ويحكمون بذات العقلية اليمنية التي خَبِرناها، بعناصرها القبلية والدينية وربما النفسية أيضًا. جماعة بهذا الحجم، صغيرة نسبيًا، لا يمكن أن تملأ هذا الفراغ الهائل إلا إذا كانت هناك أطراف قديمة -خاسرة- تسندها من الخلف، وتستخدمها كواجهة لأجنداتها الخاصة، تنتقم بصمت، وتغذي الفوضى بذكاء، لخلق احتقان شعبي يؤدي في النهاية إلى الانفجار. هكذا -وبدون أن تظهر في الواجهة- تعود إلى الساحة لتتقاسم النفوذ من جديد كما اعتادت.
وختمت حديثي حينها قائلًا: من باب الإنصاف، لا ينبغي أن نغفل هذه الفرضية. ففي السياسة، كل شيء وارد.
فأجاب النهاري بامتعاض من كلامي، وقال: دعك من هذا الكلام، ويجب ألا تكرره أمام أحد غيري، بخاصة من عامة الناس، فهناك من قد يتأثر به كونه يحمل شيئًا من المنطق والعقل، ثم قال: يا صاحبي، هذه السياسات تتخذها قيادات الجماعة التي تنفرد برسمها بعيدًا عن شركائها إذا صح التعبير أن لهم شركاء، وأن "البشمرجة" ليسوا سوى أدوات ووقود. يؤسفني يا صديقي العزيز أن أقول لك إن كل ممارسات وسياسات الجماعة ظالمة وتعسفية وطائشة وحمقاء ورعناء ولا تمت للدين ولا للأخلاق ولا للديولة ولا للضمير ولا للوطن ولا للمستقبل بشيء، إنها جماعة تحفر قبرها بيديها، وباستعجال شديد. هم هكذا وهذه هي تركيبتهم الأزلية، وهذا هو تكوينهم ومنهجيتهم، فأرجو ألا تبرر سلوكياتهم وأفعالهم.. أنت ترتكب بذلك خطأ ستندم عليه مستقبلًا. لقد رهنت هذه الجماعة مستقبلها ومستقبل الوطن بمجموعة "غويان، ومراهقين وذوي نظرة محدودة وضيقة، يمتهنون الكذب والتدليس، معتقدين بأن الشعب "أخبل وجبان" وسخيف لا يفهم! ومجموعة الغويان هذه صارت هي من تدير الدولة والجماعة، وعملت على إقصاء أي كادر وطني صاحب رؤية وفكرة ومنطق وسعة أفق. يا صاحبي هذه الجماعة الطائشة التي تتباهى بإخراج قطيعها بشكل شبه يومي إلى الشارع في فعاليات بلا حصر ولا حد، هي جماعة فاشلة وغبية، تعتقد أن خروج الناس تعبير صارخ لشعبيتها، ولم تتعظ من شعبية من سبقها من الإصلاح والمؤتمر والاشتراكي!
الصديق النهاري يقول أيضًا إن هذه الجماعة صارت محوى لكل النفعيين والانتهازيين والوصوليين والتافهين والأغبياء وأصحاب السوابق واللصوص والشوارعيين، وقطاع الطرق. وحضور دورة وعدد من الوقفات والتسليم مقياس يؤهلك للوصول إلى أعلى المستويات بغض النظر عن تاريخك المهني والوظيفي والأخلاقي. يقول: بإمكانك استحضار من تعرف في محيطك لتكتشف هذه الحقيقة.
في الحقيقة، لدى صديقي دراسة سيكولوجية معمقة للجماعة، وللكيانات السياسية اليمنية عموما، لكن ما يقوله عن جماعة الأنصار تحس بأنه تشخيص صادم ومثير ويقترب كثيرا من الواقع إذا لم يكن هو الواقع!
لذلك، ومن تلك اللحظة، كلما حاولت، بحسن نية، أن أجد مخرجًا عقليًا لأخطائهم، وجدتني أعود إلى تلك عبارة قالها النهاري يومًا: "هذه الجماعة أغبى جماعة سياسية في تاريخ اليمن".

الكلمات الدلالية