صنعاء 19C امطار خفيفة

الرجل الذي فَارقَهُ ظِلُّه

كَانَ يَمشي وَحيدًا تَصليهِ شَمس الهجير بحرارتها المرتفعة. تَوقَّفَ قليلًا وحَدَّقَ في الأفق مَليًّا. لا أثرَ لأي مظهر من مظاهر الحياة في هذا الطريق المقفر. فلا إنسان ولا طير، حتى الهواء بدا كما لو أنه ارتسم وتثبت في لوحة الأفق بِمِسْمَار صُلب.

لايزالُ الطريق أمامهُ طَويلًا وَشَاقًّا، والسرابُ لا ينفكَّ يلتمع في عينيه الذابلتين يُغريهِ بِالماءِ والحَيَاة.
انزوى عَنهُ ظِلُّهُ خَجِلًا لِبُرهَة، ثُمَّ مَضَى وَتَركهُ لِيكمِلَ رِحْلتهُ القَاسِية لِوحده. نَاداهُ دَونَ أيِّ جَدوى، حَتَّى صَداهُ الذي تَردَّدَ في جَنباتِ هَذهِ المَكانِ المُوحِش ذَهبَ وَلمْ يَعُدْ إليه!
تَذكَّرَ مِرآته التي اشتَراهَا لَهُ وَالدهُ في عِيدِ ميلاده. تِلكَ المرآة السحرية التي تَعكِس صُورته فِيها بِصُوَر مُتعددة لا متناهية. فَتارةً يَبدو فيها أسودَ السَّحنَة، مُتجَعِّد الشَّعر، أفطسَ الأنف، شَاحبَ الوجه، رَثَّ الثياب. وتارةً تُريهِ نَفسهُ طِفلًا جَميلًا مُرفَّهًا أبيضَ اللون، مُصفَّفَ الشعر، حَسَن الهِندَام.
وَحينًا يَرى نَفسهُ وردةَ قُرنفل، وآخر شَوكةَ عَوسَج. مرةً جبلًا عَاليًا أجرد، وأخرى بَحرًا محيطًا وَاسِعًا.
سَاعةً أرضًا سهلةً مُنبسطةً خَضْرَاء، وأخرى صَحْراء مُمتَدَّة قَاحِلة. وَوَقتًا نَسَمَاتٍ عَليلة مُنعِشَة، وآخر رِيَاحًا عَاتيةً شَدِيدَة.
لَمْ يَشعُرْ يَومًا بِالرِّضَا عَنْ هَذهِ الهدية التي أُهدِيتْ لَه، وَلمْ يتقبلها لِتكونَ هَديَّتهُ في عِيدِ مِيلادِه.
كَيفَ لِهذهِ الكَثرة أنْ تَحكِي الواحد؟! وَكَيفَ لِلواحدِ أن يَكونَ بِهذهِ الكثرة؟!
يَا لَهَا مِنْ مِرآة زَائفة غَيرِ حَقيقيِّة!
كَانَ عَلى هَذه المِرآة أن تعكسني أنا وَحْدِي! أنَا وَحْدِي فَقَط! صُورتي التي أعْرِفُهَا عن نفسي بِكُّل مَلامِحِي وَتَفَاصِيلي التي لا تَتغير وَلا تَتبدل!
صُورتي الواحدة التي لا أعرف غيرها، ولا آلف سِوَاهَا.
تَذكَّرَ كيفَ تكسَّرت تِلكَ المِرآة تِلكَ الليلة، وَتَبعثرَ حُطامُهَا في كُلِّ مَكَّان. لَمْ يَعُدْ يَرى أيَّ شيء. حتى نَفسهُ لَمْ يَعُدْ يَراهَا!

الكلمات الدلالية