وجه أبي
الجزء الأول
كانت الحرب مستعرة على أشدها، الناس تفر من المدينة مفزوعة لتنجو بحياتها، قرر أبي أن نعود لقريتنا البعيدة عن خطر المواجهات، والقابعة بأحضان الجبال الشاهقة.
وقع الخبر كالصاعقة علينا، وساد الوجوم جو المكان، لكن سرعان ما استدركت أمي وهي تتصنع الابتسامة لنا لنطمئن: "هي أيام قلائل ونعود، هيا عليكم أن تذهبوا وتجهزوا ملابسكم"، أخذ عبدالله يرتب ملابسه، ووضع بينها مجموعة من الكتب والقصص، فهو مغرم بالقراءة، جنى جمعت كل ألعابها، عمر هو الآخر أراد أن يأخذ معه البلايستيشن، والشاشة الصغيرة، والدراجة الهوائية، أما أنا فقد أخرجت من دولابي ملابس كثيرة، فأناقتي هي الأهم.
أقنعتنا أمي أنه لا مكان في سيارة عمي لكل هذه الأشياء، فالسيارة صغيرة، والطريق بعيدة ووعرة، وعلينا فقط أخذ بعض الملابس التي سوف نحتاجها لمدة أسبوع أو أسبوعين بالكثير.
رتبنا حاجاتنا، وذهبنا لمساعدة أمي في تغطية الأثاث لكيلا يتراكم فوقها الغبار، وأخذنا نتسابق ونحن نساعدها في تغطية الكنب والسرائر بالملايات، ونرتب كل شيء في مكانه بإتقان كما تريد أمي، حتى تبقى مرتبة إلى حين عودتنا.
جاء أبي ونحن على هذا الحال، وقف يتأمل بفرح رغم حزنه الذي يحاول أن يخفيه عنا، وهو يقول: "أنا مسرور بكم أنكم تساعدون أمكم، أنا الآن مطمئن عليها".
جلس أبي في مكانه المعتاد، تجمعنا حوله، عمر وجنى يتسابقان على حضنه، أخذهما الاثنين وضمهما وهو يضحك: "أحبكم معًا".
كنا نحكي عن السفر، وعن الحرب، وعن قصصنا زمان ونحن نضحك على كثير من مواقفنا.
أمي تنظر للساعة وتطلب منا أن نذهب إلى النوم لأن السفر في الصباح الباكر.
أبي يضم جنى وعمر لحضنه وهو يقول: "والله ولا أشبع منهم ولا اريد أفارقهم لحظة".
ترد عليه أمي: "قرر السفر معنا يا محمد، واترك العمل، سلامتك أهم عندنا".
أبي: "لا، هذا عمل والتزام يا أم علي، وبالكثير أسبوع أسبوعين وترجعوا بإذن الله".
جنى: "لكن أنت وعدتنا أنك تسافر عندنا بعدما تكمل عملك".
يحاول أبي أن يقنعها: "الآن انهضوا حان وقت النوم، وأكمل شغلي والحق بكم إن شاء الله".
توجهنا لغرف نومنا وكل واحد برأسه تخيلات.
أمي لم تنم، وظلت مع أبي يتبادلان الحديث إلى وقت أذان الفجر.
جاء أبي يوقظنا لأجل الصلاة والاستعداد للسفر.
شعور مؤلم تملكنا، لا نريد السفر بدون أبي.
عمر أكثرنا تعلقًا به، رفض أن يسافر إلا إذا جاء معنا.
عمي: "الوقت لا يسمح للتأخير".
أمي تسحب عمر وهو يتمسك بحضن أبي بقوة.
كان أبي حائرًا بين تركه وبين أخذه معه.
أمي: "هذا الوقت لا ينفع يبقى معك ولا تدلعه أكثر، علينا السفر قبل أي مواجهات أو قصف، يا ليتك تسافر معنا وتترك كل شيء، خذ ابنك واصعد يا محمد"، كانت أمي تترجى أبي وعيونها تمتلئ بالدموع، لا تريد أن يبقى وحده.
عمي يطلب من أمي أن تأخذ عمر، لننطلق قبل طلوع الشمس.
تسحب أمي عمر بالقوة وهو يبكي ويتمسك بأبي بكل قوته، يحاول أبي أن يبعده عنه عنوة وعيونه تدمع، لقد شاهدنا دموع أبي وهو يودعنا، كان يحضننا أكثر من مرة ويقبلنا، وكأنه لن يرانا ثانية، وما إن تمكنت أمي من أخذ عمر، حتى أرادت جنى أن تضع قبلة أخيرة على جبين أبي، وهي تؤشر له بأصابعها: "آخر مرة يا بابا تعال أبوسك"، انحنى أبي لها، فوضعت له قبلة على خديه، ثم بكت: "يا بابا تعال معنا هيا تعال، إذا ما في مكان لك خلاص أستغني عن ألعابي وأنت تعال جنبي"، تمسكت به ورفضت أن تتركه، لحظات صعبة وشعور موجع لا نملك فيها إلا الدموع.
عمي يصيح: "يا محمد هيا أنت وأولادك، يا أخي ليس وقت الدلال".
حاولت أن آخذ جنى وأبعدها عن أبي بالقوة، كنت أيضًا أريد أن أقبل جبينه، أن أحضنه، ألا أتركه وحده، لكن أنا الكبير، وعليَّ أن ألتزم بالاتزان والهدوء في هذه الأثناء.
أشر أبي بيده مودعًا، ودموعه تتساقط على أجمل خدود في هذا الكون.
لأبي وجه جميل، دائري، أبيض كالبدر المنير، تزينه لحية ذات شعر خفيف بدأت فيها بعض الشعيرات البيضاء في الظهور لتزيده بهاء وجمالًا.
كان أبي إذا شاهد أمي تنظر إلى لحيته وتبتسم، يفهم نظراتها، ويقول وهو يضحك: "هذا هو الوقار والهيبة يا أم علي، وإن حاول البياض أن يغزونا فالقلب يظل في شباب دائم"، وعندما تغار أمي يحضنها وهو يهمس لها: "ولا تزعلي أنت وحدك مالكة هذا القلب يا حبيبتي، ولا شريكة لك فيه".
ودعنا أبي، وتركنا كل ما نملك، وانطلق عمي بالسيارة كأنه يسابق الرياح، بكاء عمر وجنى لم يتوقف ونحن نحاول تهدئتهما، أمي تبكي بصمت وهي تردد: "استودعتك الذي لا تضيع عنده الودائع يا محمد، استودعتك يا الله زوجي وكل ما نملك".
أمي تمسح دموعها، ولا تريد أن ينتبه لها أحد، لكني كنت أشاهدها من المرآة، كان قلبي يتمزق، كنت أريد أن أصرخ وجعًا: ما هذا الفراق؟ ما هذه الحرب؟
أبي ضابط في الأمن، لم يتخلَّ يومًا عن عمله، محافظ على صلاته، علمنا الصلاة في أوقاتها والصيام، أبي رجل مستقيم، الكل يحترمه ويقدره، هو حنون جدًا، كل العائلة تستغرب كيف لكل هذه الحنية أن تجتمع برجل أمن وهم المعروفون بقوتهم وقساوتهم، وكأنهم لا يعرفون للإنسانية مكانًا في قلوبهم أو هكذا يتخيل للبعض، لكن أبي وحده كأنه الإنسانية بأبهى صورها.
هكذا عرفت أبي قلبًا طيبًا لم نره يومًا يرفع صوته على أمي، أو على أحد غيرها، أمي تحبه جدًا، إذا سافر أبي في مهمة لمدة أسبوع نسمعها وهي تقول له: "هذه آخر مرة تسافر، لا تبعد عنا حتى يومًا واحدًا، أنا ما أقدر أعيش بدونك"، كان أبي يضمها لحضنه ويضع قبلة على رأسها ويمسك بذقنها وهو يقول: "يا بنت العم لازم تكوني قوية، وتتعودي على بعدي قد أغيب شهور، عملنا ما فيه عاطفة".
تضحك وتقول: "والله أموت ولا تبعد أكثر من أسبوع، أولادك متعلقين فيك أكثر مني، سوف يجننوني عليك".
ما إن يقعد أبي حتى ترتمي جنى في حضنه، وعمر يتسلق ظهره، فيحتضنهما بود، وهو يكاد يطير من شدة الفرحة، أما أنا وعبدالله فهو لنا صديق، عندما نخرج معًا يمسك كل واحد منا بيد، ويقول: "كم أشعر بالفخر بكم، صرتم رجال ترفعوا الرأس"، دائمًا كلامه يشحذ فينا الهمم، ويدعونا للجد والاجتهاد، يقول: "نفسي أشوف واحد طبيب وواحد طيار، وترفعوا رأسي عاليًا".
كنا نعده بتحقيق حلمه، ونتنافس في الدرجات، وعندما يعود للبيت نتسابق كي يشاهد أوراق الامتحانات ودرجاتنا العالية وهو مسرور بذلك.
كان حلمه أن نسافر لندرس في الخارج، ونرجع لنخدم بلدنا، أبي متيم بهذا الوطن، عاشق لترابه، لذا كان دائمًا يغرس فينا قيم المحبة لكل شيء على هذه الأرض.
على طول الطريق إلى قريتنا وحياتنا مع أبي هي التي في بالي، أما جنى وعمر فما فتئا يحكيان: "بابا بابا"، عبدالله همس في أذني: "يا ليت جلسنا مع أبي يا علي".
سألته: "لماذا تقول هكذا؟".
قال: "دموع أبي قتلتني يا أخي، أول مرة أرى أبي بذاك الشكل، ليتنا ما تركناه".
أمي تسال: "أنتم تمام؟ ماذا يقول عبدالله؟"، قلت لها هو فقط يسأل أين نحن الآن.
قالت: "أعرف أنكم زعلانين على أبوكم، أول مرة نسافر نحن وهو يبقى، لكن بإذن الله أيام قليلة ونرجع، قدر كتب علينا يا أولادي، وكل الناس سافروا هكذا مثلنا".
عمي سمع أمي وهي تحكي، قال: "ولا تحملوا هم، أنا معكم، وأبوكم يومين بالكثير وهو عندنا".
كانت الطريق طويلة ووعرة، والسفر متعبًا، وصلنا إلى القرية ونحن منهكون، وكأنه كتب لنا عمر جديد، وما إن وصلنا البيت حتى أخذت أمي وعمتي تنظيفه وترتيبه لأجل أن نرتاح.