اليمن: مرتع الجن والإنس... ومقبرة الكفاءات
"الله يشلك الجن!"... "يعدي بظل الله ياخذك!"... "شلوك إلى نقم!".
ليست مجرد شتائم عابرة، بل هي خلاصة متراكمة لمخيال جمعي يعجز عن فهم الظلم، فيلجأ للجن. يعجز عن تسمية الجناة، فيوجه إصبعه للغيبيات. في اليمن، عندما تفشل السلطة في إدارة المواطن، يدير المواطن ظهره للدولة ويتجه إلى عالم الجن... لعل فيهم عدلًا مفقودًا أو انتقامًا سريعًا.
نقم: جبل الأشباح والفقراء
نقم، الجبل الصلد في قلب صنعاء، صار رمزًا للكآبة الوطنية. جردٌ لا شجرة فيه، ولا ظل، ولا وعد بحياة. سكانه فقراء، مهمّشون، عشوائيون، يعاقَبون كل صباح على ذنب لم يرتكبوه سوى أنهم وُلدوا يمنيين.
وفي تناقض فاضح، يقال إن الجن يسكنون نقم. ربما لأن الحكومة لم تجد غيرهم لتحمّلهم مسؤولية الانهيار.
اليمن: بلد طارد للكفاءات، جاذب للصوص
لا أحد يهرب من وطنه لأنه يريد المغامرة. اليمني لا يغادر بلده حبًا في البعد، بل كرهًا في البقاء. الطبيب، المهندس، الباحث، الفنان، جميعهم أصبحوا لاجئين محتملين أو مهاجرين قسريين.
لكن اللصوص؟ لا يغادرون أبدًا! اليمن كريمة معهم، تسقيهم نفطًا، وتلبسهم بدلًا، وتحميهم من المساءلة.
بل ربما هي الدولة الوحيدة التي تؤمّن للمجرم حراسةً، وللشريف استدعاءً من الأمن السياسي.
مكافأة الأسطورة: من يخون الوطن يترقى
نعيش زمنًا يكرّم الفشل، ويثني على الخيانة.
من ينهب الموازنة يصبح "قائدًا ثوريًا".
من يعتقل الصحفي يصبح "حامي السيادة".
ومن يسرق المساعدات يوصف بأنه "حريص على توزيعها بعدالة"!
أما من يعلّم، من يبني، من يصحح، من يحلم… فهو "حالم زيادة عن اللزوم"، و"ما عنده شطارة في الواقع اليمني".
سلامة المواطن... أسطورة أخرى
حينما يدعو لك يمني كبير في السن بـ"الله يسلمك من الجن والإنس"، فهو لا يمزح. لأن في اليمن، الخطر ليس فقط في اللصوص أو السلاح، بل في البنية التحتية، في المستشفى الذي لا دواء فيه، في المدرسة التي بلا معلم، في الدولة التي بلا دولة.
الهروب من وطنٍ يسكنك
المأساة ليست في أن اليمن طارد للكفاءات، بل في أن الكفاءة فيه تهمة. أن تكون مثقفًا، مستقلًا، نزيهًا، يعني أنك غير منسجم مع "الواقع"، وأنك قد تكون عميلًا لدولة أجنبية… لمجرد أنك لا تسرق.
الخاتمة
في اليمن، ليس الجن من يسكن الجبال، بل الفقر.
وليس الإنس من يسكن القصور، بل الفساد.
وإذا قال لك أحدهم "الله يسلك الجن"، فلا تغضب... فقد تكون تلك أقرب أمنية بالعدالة مما تستطيع الدولة تحقيقه.
مراجع ومصادر داعمة:
1. تقرير البنك الدولي (2024) حول الهجرة القسرية وخسارة رأس المال البشري في اليمن.
2. هيومن رايتس ووتش، تقارير عن الفساد وانهيار الخدمات.
3. دراسة جامعة صنعاء: "الهجرة الداخلية والعشوائيات في صنعاء"، منشورة ضمن مجلة "الدراسات الاجتماعية اليمنية"، 2021.
4. "يمن بلا شباب": سلسلة وثائقية من قناة الجزيرة، تناولت هجرة العقول اليمنية. متوفرة على يوتيوب.