في ظل عصر السرعة الذي نعيشه، والعولمة التي اجتاحت على كل شيء في حياتنا، خصوصًا وأن هذا الاجتياح ذهب بكثير من عاداتنا وتقاليدنا وفنوننا الشعبية الجميلة.
فمن فترة لأخرى نرى القهر والحنق يعصرنا على اختفاء أشياء كثيرة من حياتنا، أشياء ظلت لعقود ممتدة محافظة على حضورها الدائم.
مع أن أغلب الأشياء المختفية هي أشياء إيجابية، وكان علينا نحن جيل اليوم المحافظة عليها كإرث توارثناه ممن سبقونا وحافظوا عليه بعد أن ورثوه ممن سبقهم.
لكننا للأسف الشديد لم نحافظ على هذا الإرث، ولم نحسن التعامل معه حتى نجعله باقيًا ولو بنسبة قليلة، متى ما دعت الضرورة للعودة له، فنلاقيه متواجدًا بيننا ولا يستدعي البحث المضني عنه.
والله أشياء صادمة ومقرفة منا نحن جيل اليوم تجاه تراثنا وفنوننا الشعبية الجميلة، وهو تراث عريق وفنون هي الأخرى عريقة وذات منبع لا ينضب، فنون دائمة العطاء والاستمرار لمن اقترب منها.
فهي -أي فنوننا الشعبية- بشهادة الكثير، أنها غذت كثيرًا من بلدان الجوار، بروائع الغناء، ومازال فنانو تلك البلدان ينهلون وينهبون من فنوننا التي تركناها ولم نهتم ونحافظ عليها كما تستحق منا.
منطقتنا منطقة المشقاص الواقعة أغلب مناطقها في ساحل حضرموت الشرقي الممتد من مدينة الشحر غربًا وحتى محاذاة مناطق محافظة المهرة الغربية مع المناطق الداخلية الرابضة على ضفاف الأودية.
فالمشقاص لمن تعمق الدخول في تراثها وفنونها، فهي ثروة لا تقدر بثمن، بما فيها من التراث والفنون الشعبية الجميلة.
بل إنها نقطة ارتكاز في تجمع كثير من الفنون الشعبية، منها الفنون البحرية وفنون المزارعين والبدو الرحل، أي أنه تجتمع بها كثير من الفنون الشعبية المتنوعة.
وهي كما وصفها ذات مرة الفنان والأستاذ أنور سعيد الحوثري، الخبير في شؤون الفن والتراث، بكلمات قليلة وذات معانٍ عميقة: "المشقاص قارة فنية لم تكتشف بعد". هذا ما قاله أخونا الأستاذ أنور الحوثري عن المشقاص بتراثها وفنونها.
الشيء المفرح مع ما تم شرحه بشيء من الألم عن اختفاء الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية، وحالة النفور الحاصلة من الفنون الشعبية، أن ثمة أشخاصًا وهبوا أنفسهم في خدمة هذا التراث وهذه الفنون، أشخاصًا أتوا من صلب هذه الأرض أرض المشقاص، فأخلصوا لتراثهم وفنونهم ونالوا الشهرة الواسعة.
أسماء كثيرة تتقافز أمامي ممن اعتجنوا حبًا وإخلاصًا لفنون أرضهم.
لكن من بين جميع الأسماء يبقى هذان الاسمان الأخوان الفنانان صالح باعباد وشقيقه نادر باعباد. فهذان الاثنين لهما فضل كبير في حفظ كثير من الفنون الشعبية المتمثلة في كثير من الأغاني المأخوذة من بعض الأصوات الغنائية المشقاصية، وهي ألوان كثيرة كشحيب والحفة، الدان الساحلي والمريكوز الدانه دني، وأصوات أخرى كثيرة درجوا على إظهارها في كثير من أعمالهم الفنية التي تلاقي الرضا والاستحسان من قبل عموم المتلقين.
كيف لا وهي تمتلك ألحانًا رائعة، ألحانًا سكب فيها ملحنونا قدراتهم اللحنية الرهيبة والعجيبة، حتى أتت لنا بذلك الجمال الأخاذ الذي يأسر القلوب.
صالح ونادر باعباد قاما بما عجز عن القيام به من هم أولى به من سلطات ثقافية وفنية كما تدعي، وهي بعيدة كل البعد عما تدعيه زورًا وبهتانًا.
صالح ونادر باعباد ما انفكا في إتحافنا بين فترة وأخرى بشيء مأخوذ ومستوحى من فنوننا المشقاصية الجميلة.
فكثيرًا ما سمعناهما يترنمان بروائع الشاعر الكبير سالم بن عمرو الغرابي الملقب العكر، وهي روائع منها القديم صاحب البعد الزمني البعيد، ومنها الجديد الأجد.
آخر أعمالهما هو تقديمهما للعمل الموسوم بهذا الاسم "خط لي يا قلم"، والذي يقول الشاعر في مطلعه:
خط لي يا قلم وبقافي رسم
غنى صدى للحان رنانه
بحروبي ع قوافيه لا تولمت
وهذا العمل الفني القديم الجديد، أي أن لحنه كما يبدو قديم، لكن بحسهما الفني المرهف أعاداه كأنه جديد بتلك اللمسات الجميلة بجمال أصواتهما مع الكلمات المتناسقة للشاعر المبدع سعيد بن مليحة الراشدي.
فهذا العمل أظهر مدى تفوق فنوننا وجمالها، وعلى أنها فنون مستمدة قوتها من هذه الأرض الغنية بوفرة الفنون الشعبية وتنوعها.
العمل من فرط إعجاب الناس به تلاقي الكل يقدمه، وكل بطريقته الخاصة، خصوصًا أصحاب الحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي، نفس أداء الفنانين صالح ونادر باعباد، الشيء المختلف هو التصميم من شخص لآخر، وهذا يدل دلالة واضحة على امتلاك العمل مكونات النجاح والتميز.
فتحية من القلب للشابين الرائعين صالح ونادر باعباد، على محافظتهما على تراثنا وفنوننا الشعبية.
وفي الأخير، أتمنى أن يتم تكريم الأخوين صالح ونادر باعباد، على ما قدما ومازالا يقدمان من أعمال تحافظ على بقاء تراثنا وفنوننا حاضرة في نفوس الناس.