صنعاء 19C امطار خفيفة

المَزَايِنَة

في إطار النقاش المتواصل منذ يومين حول حادثة إقدام أسرة يمنية تنتمي إلى شريحة القبائل على إعلان البراءة من أحد أفرادها وطرده، على خلفية زواجه من امرأة تنتمي إلى ما يعرف في البنية الاجتماعية اليمنية بـ"شريحة النقص"، أقدم هذا المبحث الموجز، المستل من رسالتي لنيل درجة الماجستير الموسومة "الأرض والسلطة في اليمن المعاصر"، والتي تمت مناقشتها في كلية الآداب بجامعة صنعاء عام 2009.

 
المزاينة فئة اجتماعية تنتمي إلى شريحة واسعة من المجتمع اليمني، يمكن تسميتها "شريحة أصحاب المهن التقليدية المتوارثة (النُّقّص)"، وتشمل هذه الشريحة الجزارين، والحلاقين، والحجامين، والخضريين (القشامين)، والحمامين، والدواشين، والدلالين، والمزاينة (المطبلين، والمزمرين، والطباخين، والختانين)، وأصحاب المقاهي، والدباغين، والإسكافيين (صانعي، وبائعي، ومصلحي الأحذية). ويطلق على هؤلاء جميعا في بعض المناطق اسم "المزاينة"، وفي مناطق أخرى "الأخضور" أو "الخرازين" أو "الشحذ" أو "بني وأهل الخُمس". ويعتبرون "مهجرين" أو "ربعاء"، أي تحت حماية القبيلة التي يسكنون في مثاويها.
 
يواجه أفراد هذه الشريحة احتقارًا من الشرائح الاجتماعية الأعلى منهم في سلم الهرم الاجتماعي، بغض النظر عن مستواهم الاقتصادي. ونتيجة لذلك، يتزاوجون داخليًا، ويتوارث أبناؤهم مهنهم، وإذا غير الابن مهنته التي ورثها عن والده، فإنه لا يستطيع تغيير مكانته الاجتماعية المتوارثة، ولذلك يرث الفرد منهم مرتبته الاجتماعية عن أبيه وجده بمجرد الولادة.
 
لقد اجتهد بعض الدارسين في تفسير سبب الاحتقار الذي تواجهه هذه الشريحة والمهن التي تمارسها، وهل ذلك الاحتقار موجه للأشخاص أنفسهم أم إلى المهن التي يمارسونها؟ يرى الشهاري أن السبب هو أسلوب الإنتاج الخاص الذي تمارسه هذه الشريحة، والذي لم تألفه الشرائح الاجتماعية الأخرى من القبائل البدوية والمزارعين، بغض النظر عما إذا كان هذا الأسلوب أكثر إنتاجية أم لا. أما الشرجبي، فيُرجع السبب إلى استمرار تأثير الأعراف القبلية البدوية التي تحتقر العمل اليدوي عمومًا. في حين يشير كروزه إلى أن احتقار القبائل للمهن اليدوية، مع حاجتها لها في الوقت نفسه، جعلها تسند مهمة القيام بهذه المهن إلى جماعات من خارجها، كالعبيد، والأفراد الذين طردتهم قبائلهم، واليهود الذين أسلموا، وبقايا الغزاة الأجانب من أحباش وفرس وأكراد وشراكسة وألبان، على أن توفر القبيلة لهم الحماية وحق الجوار.
 
وإذ نستبعد فرضية الشهاري، لأن الاحتقار لا يتوجه إلى العمل فقط، بل يشمل العاملين فيه أيضًا، فإننا نتفق مع الشرجبي وكروزه في أن سبب الاحتقار يعود إلى هيمنة الأعراف القبلية التي تحتقر العمل اليدوي. ويرجع معظم أفراد هذه الشريحة إلى قبائل طردوا منها أو هربوا لأسباب مختلفة، فلجأوا إلى قبائل أخرى، ومارسوا تلك المهن طلبًا للرزق. ونتيجة لعدم قدرتهم على تملك الأرض أو الاندماج في أنشطة القبائل التي لجأوا إليها، اضطروا إلى ممارسة تلك المهن. وبعض القبائل اشترطت عليهم تقديم خدمات معينة لقاء الحماية، أو أجبرتهم على ذلك. والدليل على انتماءاتهم القبلية هو حملهم أسماء قبائلهم الأصلية، فنجد بعض أفراد هذه الشريحة في جنوب اليمن يحملون أسماء قبائل من الشمال، أو العكس.
 
أدت ممارستهم لتلك المهن إلى استقرارهم وتحسن مستواهم الاقتصادي، ومع مرور الزمن تخلوا عن انتماءاتهم القبلية، مؤكدين انتماءهم لشريحتهم الجديدة، ومساهمين في الحراك الاجتماعي والثقافة الشعبية في الوسط الذي يعيشون فيه. ومع ذلك، ظلت بينهم نظرة تمايز؛ فالجزار يرى نفسه أرفع من المزين، والمزين أرفع من الدوشان، وهكذا. لكن أمام نظرة الاحتقار من الشرائح الأعلى، يتولد لديهم شعور بالانتماء إلى شريحة موحدة.
 
يتفاوت هذا الاحتقار من احتقار المهنة إلى احتقار من يمتهنها، أو كليهما. فليس من العيب مثلًا أن يذبح القبيلي لنفسه أو لأقاربه، أو يحلق، أو يحجم، أو يصلح حذاءه، أو يصنع القهوة لضيوفه. لكنه يحتقر من يمتهن هذه الأعمال. أما أعمال مثل الدوشان، أو الدلال، أو المزين، أو زراعة الخضروات وبيعها، فلا يمكن أن يقوم بها القبيلي، حتى ولو لأجل الاكتفاء الذاتي. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ارتبطت زراعة الخضروات وبيعها بمكانة اجتماعية متدنية، وبهؤلاء الأفراد (الأخضور) تحديدًا؟
يورد الشرجبي عددًا من الفرضيات؛ منها أن زراعة هذه المحاصيل ارتبطت بعدم النظافة، حيث يُقال إن القشام كان ينظف المسجد ويستخدم بقايا المياه المتسخة في سقي المقاشم. ومنها أيضًا أن بيع هذه المحاصيل يتم دون وسيط، وهو ما قد يُحتقر. ويبدو لي أن الاحتقار لزراعة هذه المحاصيل يرتبط بالنظام القبلي، إذ إن القبيلة، لطبيعتها المستقلة والمحاربة، ترى الخضروات كماليات غير ضرورية، بخلاف الحبوب التي تعتبر مصدر العيش الرئيسي. كما أن الحبوب تُخزن وتنقل بسهولة، وتناسب نمط حياة القبيلة المتنقل، بعكس الخضروات سريعة التلف. لهذا، تركت القبائل زراعتها للمهجرين، والربعاء، والعبيد، فاقترن احتقار الزراعة بمن يزرعها. ومع مرور الوقت، أصبح الاحتقار موجها للمحاصيل ولمن يزرعها أو يبيعها على حد سواء.
 
وقد يتساءل البعض: إذا كان هذا التقسيم الاجتماعي وما نتج عنه من شرائح محتقرة موجودًا قبل الإسلام، فكيف استمر بعده، رغم أن الإسلام يرفض مثل هذا التقسيم، ويقوم ميزان التفاضل فيه على التقوى؟ للإجابة نقول: إن التفاوت الاجتماعي لم يختفِ إلا في صدر الإسلام، ثم عاد المجتمع ليعتمد على العصبية القبلية والنسب والسلالة. وقد أسهمت النخب ذات المصلحة في استمرار هذا التفاوت في تكريسه، من خلال انتقاء نصوص دينية وتأويلها بما يخدم وجهة نظرها، مثل قوله تعالى: "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم"، أو قول النبي: "وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس". ويلجأ المجتمع إلى هذه التأصيلات ليس فقط للحفاظ على التقسيم التراتبي، بل أيضًا لتلبية حاجات بعض الشرائح التي تعتمد على خدمات ومهن الطبقات المحتقرة.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً