جمال عبد الناصر.. 55 عاماً من الخلود دفاعاً عن الحقيقة..
في أعقاب رحيل عبد الناصر بفترة وجيزة، انطلقت حملة شرسة ممنهجة استهدفت تشويه صورته وطمس إرثه الوطني والقومي، وتفكيك مشروعه النهضوي.
ولم تكن تلك الحملة ظاهرة عفويّة، بل جرى التخطيط لها وتمويلها بسخاء من قِبَل أجهزة مخابرات أجنبية وإقليمية، ودعم واضح من الرئيس السادات ونظامه.
كان مشروع عبد الناصر واضحاً وجسوراً، يلامس أحلام الأمة وتطلعاتها إلى الحرية، وبناء مجتمع الكفاية والعدل، وتحقيق الوحدة العربية. وقد مثّل ذلك تحديّاً مباشراً للقوى الاستعمارية، إذ اعتبرته تجاوزاً للخطوط الحمراء التي رسمتها في ترتيباتها الاستعمارية منذ مؤتمر كامبل واتفاقية سايكس بيكو. وفي ذات الوقت كان مصدرَ قلقٍ للقوى الرجعية وكل من مسّت مصالحهم إجراءات الثورة؛ لذلك لم تدّخر هذه القوى جهداً في استهداف عبد الناصر ومحاولة النيل منه، منذ بروز ملامح ذلك المشروع. ولأن جميع محاولاتها تلك باءت بالفشل، كان مخططها الآثم لتصفية الرجل ومشروعه بالضربة القاضية عبر عدوان يونيو 1967.
غير أنّ جماهير الشعب العربي في مصر والأمة العربية، أحبطت ذلك المخطط، في لحظة تاريخية فارقة، تجلت في مظاهرات 9 و10 يونيو 67، ثم في استقبال الخرطوم الأسطوري في أغسطس من العام نفسه. وكأن تلك الجماهير بثت فيه من روحها، فنهض بعزيمة وإصرار لا يلين ليكمل المشوار ويواجه التحدي.
وكعهده دائما كان عبد الناصر على الوعد، فبعد ثلاث سنوات فقط - وتحت لهيب حرب الاستنزاف - استكمل الاستعدادات لمعركة التحرير، وكان أقرب ما يكون لخوضها. غير أنّ المؤامرة هذه المرة أُحكِمت خيوطها بإتقان، فكان الرحيل المفاجئ في الثامن والعشرين من سبتمبر 1970.

وبعد غياب جمال عبد الناصر، كانت المهمة الأخطر والأهم هي اغتيال ذكراه. فشهدت السبعينيات انفجاراً في المقالات والمذكرات والأفلام السينمائية، التي تحاول جاهدة تشويه عبد الناصر ومشروعه، وكل إنجازاته، في حملة منظمة وممنهجة مازالت مستمرة دون هوادة حتى الآن، لم تتورع عن استخدام أكثر الوسائل دناءة من الكذب والتضليل وشهادة الزور، تراهن على جهل بعض المتلقّين، وضعف الذاكرة، وسطوة التكرار.
وخلال هذه الحملة لم يسلم شيء من إنجازات عبد الناصر إلا وناله التشويه والتجريح على نحو لا يصدّق.. وهل تصوّر أحد أن يتم التشكيك مثلاً في ملحمة تأميم قناة السويس، أو تشييد السد العالي، أو بناء القاعدة الصناعية الكبرى، ...إلخ
ولكن ذلك هو ما حدث فعلاً. وتجاوز الأمر مقولة "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون" إلى "اكذب ثم اكذب حتى تصدق نفسك". وفعلاً بات كثير من المعتوهين مصدّقين لتلك الأكاذيب التي روّجوها.
وفي إطار هذه الحملة جرى ترويج مصطلحات مثل "حكم العسكر"، "دولة المخابرات"، و"النظام الشمولي"، وبدت لدى البعض وكأنها مسلّمات تاريخية عن عهد عبد الناصر.
ولا بد من الاعتراف بأن حملات التشوية والتضليل الممنهجة ضد عبد الناصر ومشروعه قد نجحت في إفساد وعي طائفة واسعة من العامة وخاصة من فئة الشباب في مصر والوطن العربي، الذين لم يدركوا عصر عبد الناصر، والذين كانت وسيلتهم للمعرفة مقالات الصحف السيارة، وكتب الإثارة، وأعمال سينمائية موجّهة، ومنشورات حزبية مسمومة، وحالياً منشورات وفيديوهات قصيرة تافهة تزدحم بها وسائل التواصل الاجتماعي؛ في ظل تدهور أوضاع التعليم، وعجز المناهج التعليمية عن إشباع النّهم المعرفي للناشئة، وتلبية حاجاتهم لامتلاك أدوات النقد والتحليل. ولهذا وجدت حملات التضليل والافتراء بيئة مناسبة لها، حيث يتلقى هؤلاء ما يُنشر دون وعي أو تدقيق، أو قدرة على الوصول إلى المعرفة الحقة من مصادرها المناسبة. وبالإضافة إلى ذلك فإن عوامل الإحباط المتراكمة في الواقع تدفع البعض لالتماس السلوى من إخفاقاته الشخصية والاجتماعية والوطنية بالبحث عن شماعة يعلق عليها وكساته، ولو كانت وهمية أو مزيّفة صنعتها آلة التشوية والتضليل الجهنمية، في سلسلة معقّدة من عمليات تزييف الوعي المستمر.
ومع ذلك، ورغم النجاح الذي حققته تلك الحملات المضللة ضد عبد الناصر فإن الذاكرة الجمعية العربية ـ في المقابل ـ ظلت عصيّة على التزييف والتضليل، وتأبى إلا أن تضع عبد الناصر في المكان الصحيح، والمكانة اللائقة به، في أعلى ذُرى المجد والفخار، بين قادة الأمة العظام عبر التاريخ. فعاشت صورة عبد الناصر حاضرة في الضمير الشعبي، أيقونة لكل المناسبات الوطنية والثورية في كل الأرض العربية، ورمزاً للحرية والكرامة والنهضة.
وتحية لهذا القائد العظيم في الذكرى الخامسة والخمسين لغيابه، ودفاعاً عن الحقيقة أولاً، ووفاءً للقيَم النبيلة التي جسّدها في مسيرته، وعرفاناً بالجميل الذي طوّق به أعناقنا على امتداد وطننا العربي؛ سنحاول في الخواطر القادمة التوقف عند إحدى أكثر القضايا التي طالما استغلها خصومه للنيل منه، متصوّرين أنها "كعب أخيل" الذي يتسللون منه للإجهاز عليه وعلى مشروعه الكبير؛ فصوّبوا كل سهامهم في هذا الاتجاه كذباً وتضليلاً وتزويراً، وهي: قضية الديمقراطية، ثم نحاول بعد ذلك الإجابة على التساؤل الجوهري في هذا الشأن: هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً؟!