صنعاء 19C امطار خفيفة

تطور الدراما في الجمَّالية

تطور الدراما في الجمَّالية

يعد مسلسل "الجمّالية" الذي تم عرضه في قناة "يمن شباب"، في شهر رمضان، نقلة نوعية في الدراما اليمنية؛ لما تضمنه من تقنيات فنية وقضايا اجتماعية مهمة؛ فقد لامس الحياة الواقعية للمجتمع اليمنى، وما يكابده المواطن اليمني من هموم ومشكلات متنوعة إنسانية وسياسية واقتصادية وفكرية واجتماعية،

 
منها: قضية الولاء للوطن، وقضية الفقر والبطالة المنتشرة بين أوساط الشباب والتي تدفعهم دفعاً إلى الانحراف والالتحاق بالعصابات خشية الفقر الذي يلاحقهم، وغير ذلك من القضايا المهمة التي تحمل في طياتها رسائل تستنهض أبناء اليمن؛ ليضطلعوا بدورهم وينقذوا وطنهم، لكن القضية المحورية التي استأثرت بغالبية الدراما هي قضية اليمن بأكمله؛ فقد استطاع المسلسل أن يضع يده على مكمن الألم في خاصرة الشعب اليمني، المتمثل في وقوعه تحت قبضة العصابات المتعددة المآرب: مهربين وتجار مخدرات ولصوص ومجرمين... ومن فوقهم عصابات ذات أفكار ظلامية هدامة تنفذ أجندات خارجية، وتركز على المعلم وتناصبه العداء؛ لدوره التنويري المؤثر في المجتمع، كل هذه العصابات وغيرها تتقاسم البلد، وتعيث فيه عبثًا وفساداً، وتتستر بغطاء أمني وسلطوي؛ لتنجو من سلطة القانون؛ فقد تجرأ المسلسل على كشف تورط أجهزة الأمن وتواطؤ بعض الوزراء مع زعماء العصابات، وإلقائهم الأوامر تلو الأوامر على مدير القسم لإخراج المجرمين من السجون، حتى ضاق به الحال وترك مهنته، ثائراً على قانون غائب؛ لينضم إلى أبناء القرية مسانداً لهم.
 
لقد جسدت هذه الدراما الملحمية الصراع بين قوى الشر ممثلة بالعصابات المتغلغلة في المجتمع اليمني، وبين قوى الخير المتمثلة في أبناء قرية الحصن (الشعب) وصمودهم الشجاع حتى تحقيق الانتصار. وتتوالى الحبكات الدرامية التي تعرض ما يحاك لقرية الحصن (اليمن) من مؤامرات لشراء أراضي أبنائها بثمن بخس، وإغرائهم بالمال تارة، وبإيقاع الوقائع بينهم تارة أخرى، بغرض تمزيق شملهم، ولكن القرية تنتصر في النهاية، وتقيم أفراحها، لروابط الأخوة التي تجمع أبناءها وتسامحهم فيما بينهم، ولوجود من يوحدهم ويتحمل همومهم وأوجاعهم، ويسعى لتطوير القرية، وهو (الجمال/ عبدالرحمن). فالانتصار كان نتيجة حتمية لوعي أبناء القرية بمصلحتهم ومصلحة القرية، وتوحدهم وتسامحهم، وهي وصفة لليمنيين عامة لإنقاذ وطنهم بها.
 
كما استخدم المسلسل تقنيات فنية متعددة، رفعت من قيمته الفنية، وفي مقدمتها الرمزية الهادفة التي سُمي بها المسلسل، وبُنيت عليها أحداثه، وميزته عن غيره من المسلسلات؛ إذ تتجلى الصورة الرمزية المؤثرة لمهنة الجمَّال؛ وهي مهنة امتهنها كثير من الأجداد في أزمنة غابرة، وتضاءل الاهتمام بها في وقتنا الحالي؛ فأصبحت محصورة في بيئتها الشعبية لدى بعض الأسر اليمنية، ولا سيما في القرى، فارتأت المبدعة نور ناجي أن تبعث الروح في هذه المهنة القديمة؛ لتكون مهنة محورية؛ وليصبح صاحبها بطلاً يحمل على عاتقه الذود عن القرية (قرية الحصن)، والجمَّال -عادة- يتصف بصفات صاحبه الجمل؛ فهو صبور يتحمل مشاق الاعتناء بهذا الحيوان الضخم، بالإضافة إلى أنه شجاع حليم قوي البنية والإرادة، وكلها صفات تؤهله لقيادة البلاد إلى بر الأمان، وهي صفات القائد المرتجى التي تحلى بها بطل المسلسل (عبدالرحمن). كما توحي صيغة "الجمَّالية" نسبة إلى المهنة، وليس إلى الفرد، بأنها مهنة صناعة القادة، فمن امتهنها بإمكانه تولي قيادة البلاد والمحافظة عليها. هذه الالتفاتة الهادفة من الكاتبة تستوقف المشاهد للتأمل في ما في الوطن من كنوز بشرية لا يعلم أحد بقيمتها.
 
ومن ناحية أخرى، ترمز (القرية) لليمن كله، وإضافة (الحصن) إليها منحها بُعدًا دلاليًا آخر؛ فهذه القرية منيعة محصنة عصية على الطامعين بها لوحدة أبنائها، ولوجود الجمَّال فيها، وهو القائد الصبور المتحمل لهمومها. كما اعتنى المسلسل بجوانب فنية أخرى جاذبة للمشاهد، تلفت النظر إلى إخراج فني متقن اهتم بالأداء الموسيقي المميز، وباللقطات الفنية التصويرية البديعة لمناظر القرية من زوايا مختلفة، وأوقات متفاوتة، وبتناغم الموسيقى التصويرية مع أحداث المسلسل، وبتماسك الحبكات الدرامية المبنية بناء محكماً، بالإضافة إلى الاهتمام ببنية الحوار بنوعيه: المونولوج الداخلي الذي أسهم في بناء الشخصيات، والحوار الخارجي (الديالوج) المثمر الذي أسهم في تماسك الحبكات الدرامية، وإن ظهرت فيه بعض الهنات كاستخدام اللغة الفصحى -في أحيان قليلة- في حوار مبني على اللهجة العامية التعزية؛ مما يتسبب في إحداث انقطاع في سيرورته، لكنها هنات لا تقلل من قيمة العمل، بل بالإمكان تداركها مستقبلًا. كما كان لافتًا إتقان غالبية الممثلين لأدوارهم التمثيلية، وفي مقدمتهم: محمد قحطان وأشواق علي وفهد القرني ونجيبة عبدالله في دور الخالة (عجوب) التي أضفت روحًا فكاهية على المسلسل؛ فخففت من حدة المشاهد الانتقامية والإجرامية فيه. وإبداع وجوه جديدة لأدوارها مثل: (سلطان) الذي يحيك الدسائس في القرية و(شاهر) المجرم الهارب المتعطش للدماء وغيرهما.
 
يبشر المسلسل بالتقدم الدرامي والفني في اليمن من ناحية، ويبعث الأمل بانتصار اليمن على جميع العصابات، وعودته متوحدًا من ناحية أخرى.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً