هل تستعيض حضرموت عن رُفات باكثير بتراثه؟

هل تستعيض حضرموت عن رُفات باكثير بتراثه؟

حسين حسن السقاف
تُمثِّلُ حضرموت بالنسبة للأديب علي أحمد باكثير البيضة التي تكونت فيها مرحلة ثقافته الجنينية التي شكَّلت ملامح وتوجهات هذا الرائد العربي. هذه المرحلة التي تشرَّب فيها باكثير ثقافته الدينية التي انعكست في ما بعد على سياقاتها وتناصَّاتها لنتاجاته الغنية والغزيرة من الأعمال الروائية والمسرحية والشعرية الخالدة.
كانت وما زالت حضرموت منطقة طرد سكاني، وكانت أرضاً مذمومة المكان في كتب السلف ومحمودة الإنسان في الآن نفسه، ولعله من نافلة القول هنا أن أصف حضرموت بأنها: ليست إلا مصنع لتصدير القوى البشرية البناءة التي تم ويتم بها بناء صروح اقتصادية وفكرية وفنية متعددة العطاءات أتت أكُلها في نواحٍ مختلفة من المعمورة، غير أن كل ذلك كان بعيداً عن المصنع الأم.
وبعيداً عن العنصريات المذمومة، فقد تكررت مطالبات الدكتور عائض القرني بإجراء دراسات ديموغرافية على تلك الظاهرة التي مثلتها المخرجات البشرية لهذه الأرض الجرداء. هذه الأرض التي يحاصرها أكبر سياج في الكرة الأرضية محاصرة القيد للمعصم، وأقصد بها تلك السلسلة الجبلية الناتجة عن انشطار قارة آسيا عن أفريقيا ما يزيد عن 15 مليون سنة. هذه الجبال الشاهقة التي عزلت حضرموت جعلتها مضرب الأمثال في النأي والبعد.
لقد أدرك باكثير مثل الغالبية من أبناء هذه البقعة، أنه لا يمكنه البقاء في رحم هذه الأرض أكثر مما يجب. كان المهاجرون في ذلك أشبه بتلك الطيور والأسماك المهاجرة التي تكتفي أمهاتها بأن تعلمها براعة الطيران أو السباحة في المناطق الدافئة، لتذهب بعد ذلك بعيدا في الفضاءات الواسعة اللامُتناهية لتصنع ذاتها. ذلك ما صنعه ابن ال20 ربيعاً حينما اقتطع له من جريد نخل حضرموت عصا ترحاله التي توكأ عليها في إيصاله إلى 6 مدن موزعة بالتساوي على القارتين المتجاورتين، والتي كانت آخرها هي "قاهرة المعز" التي طاب له الحل بها ليضع فيها عصا ترحاله، هذه المدينة العريقة التي كانت قد تشربت بالأفكار التنويرية والإصلاحية التي كان باكثير يتوق ويتطلع إليها كما تاقت هي بعد ذلك إلى نتاجاته الفكرية.
إنني أتساءل ترى ماذا سيكون باكثير لو أنه بقي في حضرموت؟.. دعني أتلقف الرد من الفنان صاحب الصوت الأعجوبة "كرامة مرسالـ"، كان ذلك في معرض رده على سؤال مماثل لسؤالي عن الفنان أبو بكر سالم بلفقيه، قال: لو كان بلفقيه هنا لكان مثلي... طبعاً مع البون الثقافي الشاسع الذي بُخس فيه مرسال. لا شك أن "مرسالـ" كان واقعياً وموفقاً في رده.
السؤال الذي أطرحه على القائمين على تراث باكثير هو: هل يحق لأحد أن يتصرف بتراث باكثير خلافاً لما أراد هو لتراثه؟
إن وصية باكثير في تراثه تحملها 70 مسرحية و6 روايات وديوان شعره. فعندما حِيلَ بين باكثير وجمهوره الذي أحبه، فعندما حُرِم المسرح القومي في مصر من مسرحيات باكثير التي كان يزدان بها، قال باكثير سأظل أكتب وأكتب.. سوف يأتي من يهتم بأدبي. وقال أيضاً عام 1959، في رده على الصحفي فوزي سليمان: كيف لي أن أكتب وأنشر في حضرموت أو إندونيسيا... لقد عرفت أن في مصر مصيري ومستقري...
شاهدت في الشاشة الصغيرة أحد التجار الحضارم وهو يقوم بشراء منديل الراحلة أم كلثوم من معرض مقتنياتها بثمن قدره مليون دولار.. فهل يبخل هذا أو غيره من أن ينفق ربع ذلك المبلغ، ليؤسس لباكثير مركزا يليق بمكانته، ليقوم المركز بخدمة تراث هذا الرائد العربي، أو يقوم بشراء شقته الواقعة في عمارة السقاف المطلة على النيل، لتكون مركزاً يحقق هذه الغاية. غير أنه يجدر بي أولاً أن أطلب ذلك ممن يناط به الأمر قبل غيره، وهي الدولة اليمنية، فهي تستطيع إقامة مركز يليق بمكانة هذا العلم الثقافي، ليكون لها سفارة ثقافية تفاخر بها وتنجز من خلالها مشاريع ثقافية تصب في إطار الوحدة الثقافية العربية، وتتحقق من خلاله جملة من المصالح الوطنية والقومية، ويكون من الحكمة بعد ذلك أن نقيم مركزا ثانيا في مسقط رأس باكثير (حضرموت) ليكون على صلة وثيقة بالمركز الرئيس في القاهرة، ويكون ذلك بتنسيق وزارة الثقافة واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين والسفارة اليمنية، أما أفضل من يقوم بإدارة هذا النشاط فهو الدكتور محمد أبو بكر حميد الذي بذل جهوداً جبارة في خدمة تراث باكثير، وكذا الدكتور عبدالحكيم الزبيدي، لقد تكللت هذه الجهود بإقامة الندوة العلمية التي أقامتها جامعة عدن في مدينة"سيئون"، في هذا الأسبوع، بمناسبة مرور 100 عام على ميلاد هذا الكاتب المبدع (علي أحمد باكثير)، والتي شهدت حضورا شخصيا فاعلا لكل من وزير الثقافة الدكتور المفلحي، والسلطة المحلية ممثلة بالمحافظ الخنبشي، ورئيس جامعة عدن د. عبدالعزيز بن حبتور، ووكيل المحافظة لوادي حضرموت عُمير مبارك عُمير، وتمت فيها مناقشة جملة من البحوث العلمية الرائعة في أدب باكثير، بمشاركة من بعض الأشقاء من الدول العربية والإسلامية. وتم كل ذلك برعاية كريمة من رئيس الدولة. غير أنني أحب التنويه هنا والتأكيد على رغبة مصدر هذا التراث من أن تراثه ليس حكراً لأحدٍ دون غير.
hhsaggafMail