سهيل المساح في كلمة رثى بها والده

يوم أمس بعد منتصف الليل، حاولت أن أكتب عن المساح مرثية، فوجدت أنني الأحق بالرثاء، لا والدي..
المساح لا تليق بوداعه المرثيات..
فالمساح أشبه بأغنية ثورية خالدة تدعو للتمرد والغضب.

منذُ الطفولة.. كان المساح ذا شخصية متمردة، لا أحد يفرض عليه ما لا ترغب..

سهيل المساح أثناء إلقاء كلمته(شبكات التواصل)
سهيل المساح أثناء إلقاء كلمته( شبكات التواصل)

من يصور المساح الأديب والإنسان بأنه ضعيف أو مغلوب على أمره، فهو لا يعرف المساح حقًا..
الرجل لم يكن يهتم بشيء غير مبادئه والقضية التي يحارب من أجلها.. في بداية حياته العملية كان المساح يعمل في وزارة الخارجية، لكنه ترك العمل فيها ببساطة حين مورست عليه الضغوط، وبدأت الإملاءات.

اختار المساح أن يبدأ من جديد كصحفي في وزارة الإعلام ومؤسسة الثورة، بقلم حُر، أراد أن يحول الصحيفة الحكومية الأبرز إلى صحيفة تمتلك حق النقد والتصحيح، وبسبب ذلك أُحيل للتحقيق، وتعرض للكثير من العقوبات والمضايقات، وأوقف أكثر من مرة من العمل.

والدي كان يرى مبادئه وقضايا وطنه العادلة فوق كل الاعتبارات.. وحين اشتدت خيوط الرقابة وزاد النفاق، كان للمساح أساليبه في الكتابة.

"لحظة يا زمن" كان عمود المساح المحبوب للناس، الملامس لأرواحهم وعواطفهم، العمود الذي تناول كل شيء تقريبًا بشكل سلس وجميل، وبقالب أدبي فريد، كان في كثير من الأحيان يحمل رسائل سياسية حادة بترميز ذكي ومتقن لا يفهمه إلا قلة من القُراء، بينما يتعجب منه الأغلبية.

المساح كان يستطيع أن يسكن في قصور عاجية ببساطة في حال استغل الفرص الفالتة كما يحب أن يسميها، لكنه دون تردد انحاز للوطن والحقيقة.

المساح في مُداخلة له خلال المؤتمر العام الخامس لنقابة الصحفيين اليمنيين( الصورة من ارشيف الكاتب)
المساح في مُداخلة له خلال المؤتمر العام الخامس لنقابة الصحفيين اليمنيين( الصورة من ارشيف الكاتب)

كان ينظر المساح للمدينة كطفرة همجية عابرة.. لذا كان يتخلص من كل ما يربطه بها، محضرًا نفسه للعودة إلى لقرية، ومن هذه الأشياء أرضية مُنحت للصحفيين من الدولة في واحدة من أرقى مناطق العاصمة حاليًا، لكنه سرعان ما تخلص منها ليشتري في القرية قطعة أرض زراعية.

شخصية المساح الثائرة، لم تكن تناسبها وحشية المدينة التي تحتاج إلى الكثير للبقاء، كان مولعًا بالقرية التي تساند طبيعتهُ المتمردة بالخبز واللبن، دون أن يضطر لبيع مبادئه للحصول على رغيف المدينة.

المساح كان مولعًا بالمساحات الشاسعة التي تسرح فيها العين بكل حرية، وتجري فيها الأغنام كقطعان برية متوحشة، وكأنها لم تُدجن قط.

كل تفاصيل المساح كانت ثائرة وقوية ومتمردة، من نبرة الصوت حتى انحناءات الخط المتمرد على سطور الورق.

لم يكن هناك شيء يكسر المساح سوى وجع وطنه ورحيل أصحابه.. غير ذلك لم يكن يهم المساح أو يغريه، عاش المساح معتزًا بقناعاته ومبادئه، يسخرُ من صيرورة الوقت وسوء المآل.

الرجل العظيم صاحب الشخصية البسيطة المتواضعة، لم يكن نادمًا على شيء، ولو عاد به الوقت منذُ البداية، لكان هو ذاته المساح الذي نعرف.
رجلٌ احترق باسمًا حتى الرحيل لإضاءة الدرب والطريق.

رحم الله المساح وكل من سبقوه من الرجال الأوفياء للوطن والقيم النبيلة.
ونيابة عن المساح ومن يمثله، أشكر كل من أسهم لإحياء المساح وسيرته كقامة مُلهمة بذلت حياتها لهذا الوطن.

*نص كلمتي خلال فعالية تأبين محمد المساح التي أقامها إتحاد الأدباء و الكتاب بتعاون مع صالون ميون الأدبي - في مدينة تعز...