لحظة المساح يا زمن

رحل محمد المساح في قريته التي اختار البقاء فيها، ليرسم نهاية قلم خاض معارك الكتابة بفلسفة خاصة به من خلال عموده "لحظة يا زمن"، وكثير من القصص والحكايات التي دارت في معترك حياته اليومية مع البشر والشجر والحجر والسلطة والمال والفساد، ليصل في الأخير إلى قناعة البقاء فقيرًا في قريته، مستمتعًا برعي الكسب والغنم التي يملكها كفيلسوف يمتلك حكمة خالدة في الحياة وفكرة عن لحظة زمن لن تتوقف مهما كان الحلم كبيرًا.

الراحل محمد المساح(شبكات التواصل)
الراحل محمد المساح(شبكات التواصل)

كنت أعرف أن لحظة موت المساح ستأتي في يوم ما، وكنت أعرف أن كثيرًا من الحبر سينزف من أجل هذا الرحيل، ليس لشيء، وإنما لأن الرجل عاش بصدق مع نفسه، وتماهى مع حروفه التي خلقت لحظة الزمن التي أراد إيقافها ليقول لنا ما يدبره الزمن لنا، ولكننا لم نفهم، أو أننا فهمنا وتهنا في وطن يذهب بالجميع بعيدًا عن حلم محمد المساح.

منذ فترة كتب:
"أخذوني أصحاب "النداء"، ولم يتركوني على الرصيف".
ياالله!
أيترك مثل هذا القلم الحكيم على الرصيف؟
تابعت نبضات حروفه في صحيفة "النداء" التي وقفت معه حتى آخر حرف كتبه فيها عن دوران الزمن والموت، وكأنه كان ينظر إلى السماء، ويحكي قصة الشروق والغروب ودوران الزمن في قالب فلسفة الحياة والموت، بدت كأنها النهاية لقلم كتب من أجل الناس البسطاء، وعاش ومات بينهم، وفكرة ستعيش خالدة من بعده.
قال في لحظة من لحظاته:
"إن الفقر والجوع يدقدق عظام اليمنيين"، ولم ينتبه أحد لما يكتب، فاليمن وأمثال المساح من البسطاء يصارعون الموت في غرف الإنعاش، بسبب تجار الحروب.
في لحظة زمن ساخرة قال لصديقه الوفي الكاتب الأنيق عبدالرحمن بجاش:
"صنعاء تكبر. تكبر، والمساح ابن أيرك يزغر يزغر".
لم يملك صاحب اللحظة منزلًا في صنعاء، برغم خدمته الطويلة في صحيفة "الثورة"، برغم أن صنعاء تكبر تكبر كما كان يقول بلهجته الساخرة.

وحين تحدثه عن الأمر، يقول بسخرية وبلهجته القروية البسيطة:
"مو نعمل لهم بني حماري!".
يبدو الأمر مضحكًا حد الاستغراب، ومحزنًا حد القهر والموت، متمثلًا في قول البردوني:
لماذا نحن يا مربى ويا منفى بلا سكن
بلا حلم بلا ذكرى بلا سلوى بلا حزن؟
ودائمًا ما نسأل نفس السؤال ولا نجد الجواب!
في قريته البعيدة ترك منزلًا مهلهلًا، وأسرة تأكلها لعنة الفقر والمجاعة، وحبرًا كثيرًا مسكوبًا على وطن منكوب، وابنًا اسمه سامح خرج ولم يعد بسبب الحروب وتجارها.

الآن فقط، وبعد كل ما تعرض له صاحب اللحظة من ظلم وفقر وتهميش، سنقول: من سيلملم ما كتبه المساح؟
ومن القادر على تعويضه ميتًا من خلال تعويض أسرته التي عانت كثيرًا؟
من؟
ومن؟
ومن؟
أسئلة كثيرة... ولكن..!